البحرين: نهاية الصّحافة

2011-05-20 - 6:18 ص

مرآة البحرين (خاص): تاريخ الصّحافة في البحرين يرتبط وثيقاً بمتغيّرين. الأوّل الخيار السّياسي الذي تلتزم به السّلطة، والثاني مدى قدرة النّسيج الاجتماعي على الخروج من حدّة خياراته الأيديولوجيّة. في الحال الأولى كانت تتحدّد السّقوف المتاحة لحريّة الصّحافة، وفي الثانية تكتسب هذه السّقوف طعمها وتفاصيلها الحيويّة. بعد دخول البلاد في النّفق المُظلم، والتحاقها بالقرار العسكري السّعودي؛ سقطَ المشهد الصّحافي في طوْرٍ جديدٍ من العبث وإعادة تصنيع الأساطير.

في التّاريخ الحديث للصّحافة البحرينيّة، برزت "الوسط"، و"الوقت" لاحقاً، لتُعطيان شحنة غير مسبوقة من الأمل في صناعة صحافةٍ "تجريبيّة"، تملكُ القدرة على مجادلة تخلّف السّلطة وجمود المجتمع معاً، والخروج بمزيدٍ من المكتسبات الصّحافية الممكنة. علينا إيقاف النظرة عند هذا الحدّ، فمن السّذاجة تصوير الأمر وكأنّ البُنية السّياسية والاجتماعيّة في البحرين مؤهّلة، أو موافِقة، على إنتاج صحافةٍ حقيقيّةٍ كاملة. الدّورُ الهام، والميسور، الذي مارسته "الوسط" هو الاستفادة من الانفراج الأمني، والتمترسُ خلف إدّعاءات السّلطة في الإصلاح وإطلاق الحرّيات. يعلمُ الجميعُ أنّ منصور الجمري – رئيس التّحرير المُقال والذي أُحيل للمحاكمة - أظهرَ براعةً "براجماتيّة" مؤثّرة في استثمار المُعطيات الجديدة لأجل توسيع حدود الصّحيفة من ناحية، ولتوفير ضمانات رمزيّة ومادّية تحميها من ناحية أخرى. من الطبيعي أن يجلب هذا النّمط الإداري متاعبَ جانبيّة، والجمري - كما توضّح مراراً-  لم يجد مشكلة في ذلك، فهو بخبرته السياسيّة يملكُ الأدوات اللاّزمة لإدارة أكثر من ملف، وامتصاص غضب الأصدقاء والمقرّبين.

بدورها، كانت "الوقت" أقدرَ الصّحف على مُراكمة مُنجز "الوسط"، والإسهام بقيمة إضافيّة من خلال استكمال النّاقص. بخبرته الصّحافيّة وتخصّصه الأكاديمي في مجال الإعلام؛ وفّر إبراهيم بشمي – رئيس هيئة تحرير "الوقت" – المستلزمات المهنيّة اللازمة لإضفاء جودةٍ احترافيّة، واقتراح مدرسة جديدة في الإنتاج الصّحافي شكلاً ومضموناً. على هذا النّحو؛ كانت "الوقت" صوتاً ليبراليّاً من غير تنطّع أو مقاتلة، وهندست ظهورها الليبرالي من خلال توسيع حرّية الكلمة وحقولها، فكان الاهتمام بالصّحافة الثقافيّة والنقديّة وتفكيك الخطابات الدّينيّة المحلّيّة. في يوم الصّحافة العالمي من العام الماضي أعلنت "الوقت" وداعها للقرّاء شاكرةً لهم الثقة والمتابعة، وفي الوقت الذي كان العجز المادي السّبب المُعلن للتوقّف؛ فإنّ العارفين يؤكدون أنّ ما جرى كان إسكاتاً مقصوداً نتيجة إصرار الصّحيفة على الالتزام بنهجها الصّحافي. في الذّكرى نفسها من هذا العام؛ تفاجأ الوسط الصّحافي بالأخبار التي تتحدّث عن عزْم إدارة صحيفة "الوسط" التوقّف النّهائي عن الصّدور، وأنّ عددها الأخير سيكون يوم الاثنين 9 مايو.
 
بعد تقرير "مراسلون بلا حدود" شديد اللّهجة، جرى تحرّك مناور  - تشير المصادر إلى أن العاهل باشرَ الأمر بنفسه – لإطالة بقاء الوسط لعددٍ من الأشهر لحين التوصّل إلى حلول لما قيل عن أزمتها الماليّة. إعلانٌ لا يمكن فصْله عن العمليّة الجراحيّة التي أجرتها السّلطات قبل أقل من شهر على رئاسة التّحرير وأبرز الطواقم التّحريريّة في الصّحيفة، كما أنّها تأتي في سياق الحملة القمعيّة الشاملة التي تتعرّض لها حرّية الصّحافة من خلال اعتقال وملاحقة الصّحافيين الإعلاميين غير الملتحقين بالنّظام. وإذا كان الصّحافي المخضرم غسّان الشّهابي؛ يربْط بين "الوسط" وما يُسمى بالمشروع الإصلاحي؛ فإنّ كلّ هذا الشّعار يُصبح لاغياً مع النّهاية الأمنيّة القاسية التي انتهت إليها الصّحيفة. فماذا بعد؟.

خلال أحداث الثّورة البحرينيّة وجدَ منصور الجمري نفسه أمام الاختبار الأصعب. كان يعلمُ أنّ أيّ خطأ تحريري ستكون عواقبه وخيمة، لكنه في الوقت نفسه لم يشأ أن يرسب في ما بدا أنّه الاختبار "النهائي". من المهم إعادة تجميع الأحداث المُتسارعة قبل الانقلاب على الجمري وإخراج "الوسط" من معادلتها الوطنيّة. فالغريبُ والغامضُ ليس لماذا تمّ استهداف منصور الجمري ومشروعه الصّحافي، فمن الواضح ذلك الدّور المُختلف الذي تولاّه بعد ثورة الرّابع عشر من فبراير، حيث خرجت الصّحيفة على الإجماع الرّسمي، وخرقت "إكراهات" قانون الطوارئ، في وقتٍ كانت بقية الصّحف تؤكّد اندماجها في برنامج التّرويج والتّشهير الحكومي. دون تردّد، كان قرار إخراس "الوسط" جاهزاً ومن أعلى مستوى، وقبل أن تدخل القوّات السّعوديّة البحرين.
 
لم تكن رسائل الطّمْأنة المتبادلة كافيةً لتأخير القرار أو تعديله، وكان الطرفان على يقين بأنّ الأمور آخذة في التفاقم، وليس مفيداً معها مزاولة اللّعبة القديمة. إضافة إلى الاستهداف غير المنقطع، فإنّ "احتلال" الميليشا الأمنيّة لمطبعة الصّحيفة منتصف مارس الماضي، وعدم تعاون وزارة الدّاخليّة لتوفير الأمن اللازم لعمل الصّحفيين؛ أوجد لدى الجمري شعوراً لا لُبس فيه بأنّ الأيّام "الحلوة" باتت معدودة. إلا أنّه لم يُسقِط الرّاية حتّى آخر اللحظات، وتجرّأ  من منصّة دوّار اللؤلؤة على فتحَ النّار في وجه التلّفزيون الرّسمي واعتبرَ إغلاقه بداية لحلّ مشاكل البلاد.
 
جرأةٌ يستوعب خطورتها منْ يُدِرك أنّ هيئة شؤون الإعلام تحوّلت بعد أيام من الأحداث إلى مركز إستراتيجي تُدير السّلطة من خلاله أهم ملفات الأزمة وتتكفّل صياغة جانباً رئيساً من المواقف الدّعائيّة والأمنيّة، وهو ما برز بشكل متوال مع تتابع الأحداث، حيث كان المتابعون يستنتجون ممارسات السّلطة التّالية اعتماداً على ما يُعرض في التلفزيون وما تذيعه هيئة الإعلام من بيانات ومواد إعلاميّة. لضمان سيْر الأمور وعدم إزعاج الهيئة في عملها؛ كان لابد من تدجين الصّحيفة الوحيدة التي تترفّع عن التحوّل باختيارها إلى بوقٍ للاجترار والتّضليل. هكذا تولّت الهيئة وبمساعدة جهات إعلاميّة اخرى – بحسب تصريحات منصور الجمري – في فبركة الكذبة التي أسقطت الجمري وأتت برجل المرحلة الجديدة عبيدلي العبيدلي.

منذ مجيئة، طوّع العبيدلي صحيفة "الوسط" لتكون وفْق المقياس المناسب لمزاج النّظام. لذلك لم يكن غريباً أن يزور رئيس التّحرير الجديد وزير الدّاخلية ليتلقى التبريكات على منصبه الحديد. إتمام الدّور يحتاج إلى تلقي التعليمات الواضحة، والمعرفة الدّقيقة للحدود الواجب التزامها. كان من المفارقة غير الغريبة أيضاً أنّ هذه الزّيارة تمّت متزامنة مع تصفية النّاشر وعضو مجلس إدارة الصّحيفة الشّهيد عبد الكريم فخراوي.
 
الأداء التّحريري للعبيدلي كشف عن حرْص مُتقن في تجنّب إزعاج النّظام. إلا أنّ إمساك العبيدلي نفسه دون الارتماء المطلق في مشروع "التّطهير" الرّسمي؛ وتحرّكه المشاكس من خلال الثّقوب والحواشي غير المكشوفة؛ أقنع النّظام بضرورة التخلّص من هذا "الوجع" نهائياً. وإذا كان الأمر، كما هو حال "الرّاحلة" صحيفة الوقت، له علاقة بالحصار المادي والتحرّك الممنهج لإفلاس المؤسّسة تدريجيّاً؛ فإنّ الظّرف الأمني الرّاهن أضاف إلى ذلك استهدافات جرّارة من المحتمل ألا تتوقّف عند حدّ من الحدود، ويمكن أن تطال كلّ مجلس إدارة الصّحيفة. وهكذا كان بيان الوداع، ثم تمديد البقاء شهوراً.

أياً كان العُمر المتبقّي للوسط، فإنّ "الصّحافة" في البحرين انتهت إلى خاتمة بشعة. حدث ذلك لأنّ البلدَ جُرّت  للوقع في انهيارين مزدوجين، الأوّل تشظّي بُنيّة الدّولة الهشّة أصلاً – أو غير المُنجزة بحسب المفكّر البحريني عبد الهادي خلف – والثّاني استطاعة النّظام العائلي (ذي النّزوع القبلي والطائفي) اختطاف شريحة أساسيّة من المجتمع نحو خرافاته الكبرى المستوردة من النّظام الوهّابي.      

كيف هي تفاصيل المشهد المشوّه للصّحافة اليوم؟ للكلام صلة...


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus