الخواجه البنت: على الدرب نفسه

2011-05-16 - 7:30 ص

مرآة البحرين (خاص): مثل بقية العائلة، شاءت مريم الخواجة أن تكون على الدّرب نفسه. الغربة الطّويلة خارج البلاد لم تمنعها من تفريغ نفسها لأن تكون ناشطة دوليّة للدّفاع عن أبناء وطنها. حدثَ ذلك في وقتٍ شاءت السّلطات في البحرين أن تُخلي السّاحة من النّشطاء، أملاً في تمرير المذبحة بسرعة وفي صمتٍ تام. تبدو الخواجة مُثقلة بكلّ أوجاع عائلتها، لكنها تجد أنّ الوجع العام هو البوّابة.

هكذا كان نشاطها غير المنقطع في العواصم الغربيّة وصولاً إلى جلسة الاستماع في الكونغرس الأمريكي يوم الجمعة 13 مايو/ أيار. وجدت السّلطة أنّ الأمر بلغَ حدوداً خطيرة. لقد فوجئت الأخيرةُ أنّ عبد الهادي الخواجة – المزعج الأكبر للنظام – خرجَ من سجنه المظلم من جديد، متجسّداً في صورة الابنة الوسطى، التي تمرّست على مخاطبة الرأي العام العالمي، وعرفت تماماً نقاط الضّعف والقوّة في خصومها غير المبالين هذه الأيام لأبسط حقوق الإنسان. 

قبل انعقاد الجلسة بيوم واحد، حرّكت السّلطة أدواتها لأداء المهام المعهودة. ببساطة، تمّ إدراج مريم الخواجة في قائمة خونة الوطن، وأعلنت مجموعاتٌ أمنيّة منتشرة في الإنترنت إهدارَ دمها. وفي المقابل، دفعت السّلطاتُ أتباعها لتدشين حملة مفبركة ضد الخواجة، وشارك فيها أفرادٌ من عائلة آل خليفة. وبحسب بعض الإشارات، فقد كان يُراد إحداث تشويش إعلامي على الجلسة، بغية الحدّ من تأثير محتواها على المسؤولين الأمريكيين. وقد حرصت السّلطات على إرسال وفد لمراقبة مجريات الأمور.

صحيفة "البلاد" في عددها الصّادر يوم السّبت 14 مايو/ أيار الجاري، علّقت بحسب مصادرها أن الخواجة كانت مرتبكة ومتناقضة. من الواضح أنّ هذا التّعليق "شبه الرّسمي" بدا أكثر تهذيباً من الحملات الخلفيّة، إلا أنّه لم يبيّن بالتفصيل مظاهر الإرباك والتناقض التي حفلت بها مداخلة الخواجة. اعتمدَ الإعلام الرّسمي سياسته الموجّهة، وشنّ هجوماً على نشاط شابة في مقتبل العمر تتنقّل عبر الدّول الكبرى، ورأى هذا الإعلام أنّ الخواجة لا تمارس نشاطاً حقوقيّاً نزيهاً، وأنها تتعمّد التغطية على "الحقائق" وإخفاء تلك الملفات التي "تكشف" حقيقة الضحايا الذين تدافع عنهم. إلا أنّه من الصّعوبة – كما يقول الشّاعر الفسطيني مريد البرغوثي - إقناع منْ يُعوّل في معلوماته على تلفزيونه الرّسمي، فالإعلام العالمي لا يمكن أن تمرّ عليه الفذلكات الحكوميّة، ولم يعد الفضاء الحديث يستمرئ التحليلات والكتابات المدجّنة التي تبرمج اتجاهها وفْق الهوى الرّسمي.

على هذا النّحو، لا يمكن استقبال أولئك المهاجمين لنشاط الخواجة ببراءة تامة. فالمشهد الدّموي الذي مُرِّر على البلاد منذ الرّابع عشر من فبراير؛ لا يمكن لأي متابع أن يفلت من يديه، وحيث إنّ الجهاز الأمني استهدف إنزال عقاب جماعي على المواطنين، وباستخدام وسائل القهر كافة، فإنّ السلطات في البحرين أوقعت نفسها في نفق مظلم، ما يجد فيه النشطاء الحقوقيون في العالم اندفاعاً غير طبيعي باتجاه حرْق كلّ الخطوط الحمراء والاعتبارات، وعند هذه النّقطة بالذّات يجد هؤلاء الحديثَ "الأكاديمي" عن التفرقة بين النشاط الحقوقي والسياسي مدخلاً  يُوقِع صاحبها من حيث يدري أو لا يدري في عملية إخفاء الجريمة أو صناعة المبرّرات لها.

من المعروف أنّ هذه الإثارة لاحقت النّاشط عبد الهادي الخواجة كثيراً، ولاسيما بعد حلّ مركز البحرين لحقوق الإنسان، وما تلاه من تخطيطٍ رسمي لتفريغه من محتواه المادي، وهو أمرٌ استعانة السلطات لتنفيذه بإمكانات وشخصيات مزدوجة، بعضها يحمل صفة الحقوقي والسياسي، كما هو الحال مع النّائب عبد العزيز أبل، والحقوقي القريب من السّلوك الرّسمي حسن موسى شفيعي. وكلاهما كانا في صُلب إدارة المركز، وقد مارسا دوراً متواصلاً لإجهاض "حركة المركز في الدّاخل والخارج"، كما يفيد أحد أعضاء المركز البارزين. 

قبل خمسة أعوام؛ حلّت السلطاتُ مركزَ البحرين لحقوق الإنسان، وذلك بعد كلمة لرئيسه السابق، عبد الهادي الخواجة، اتْهمَ فيها رئيس الوزراء، الشيخ خليفة بن سلمان، بالفساد وطالب بتنحيه عن السّلطة. ظنّت السلطات أنّها قضت على المركز، وراهنت أنّه سيختفي مع الوقت، لاسيما بعد إدخال وجوه حقوقية وسياسية في "الحصار". إلا أنّ المركز استعاد نشاطه بسرعة، وأعاد ترتيب أوراقه، وتم تسجيله في أوروبا لاحقاً ليباشر نشاطاً دولياً أوسع. أحد المتابعين للمركز يشير إلى أن المركز "وبفضل رئيسه الحالي، نبيل رجب، اكتسب سمعةً عالمية قلّ نظيرها في المنطقة"، وتعتمد المنظمات العريقة على تقاريره وبياناته الحقوقية. ونتيجة ذلك، فقد رُشّح الخواجة ورجب لرئاسة بعض المنظمات الدّولية، وهو إنجاز حقوقي غير مسبوق في منطقة الخليج.  

واجه عبد الهادي الخواجة استهدافاً موجّهاً، وتشير عمليات التّعذيب القاسية التي تعرّض لها في اعتقاله الأخير؛ إلى نيّة سوداء لتصفيته، لولا مكانته الدّوليّة و"تدخّل مباشر لبعض المسؤولين الدّول الكبرى"، كما تذكر بعض المصادر. الخواجة الأب استقال في الفترة الأخيرة من رئاسة منظمة دوليّة بارزة ليتفرّغ للشأن المحلي، واهتمّ بصياغة البناء الحقوقي الجديد في ظلّ الأوضاع المستجدة بعد 14 فبراير، ورغم أنّ ظهوره انصهر مع الطّيف العام الذي طبَع فعّاليات دوّار اللؤلؤة، إلا أنّ مقرّبين من المركز يؤكّدون أنّه نجحَ في تعميم الثقافة الحقوقيّة التي ميّزت المركز، وكانت الخيمة الخاصة به في الدّوار منطلقاً لجهدٍ تثقيفي وفني في صُلب الجهاز الإعلامي والحركي لشباب الدّوار، كما أسْهم الخواجة مباشرةً في حلّ بعض الإشكالات التي أُثيرت في أوّل الحركة بشأن السّقوف المطروحة، والعلاقة مع خطاب الجمعيات السياسية، وآلية تحريك الشّعارات الجذريّة.

بعد تغييب الخواجة، الذي أُدرج ضمن قائمة المتهمين 21 بقلب النّظام، لم يتغيّر المسار العام للنشطاء الحقوقيين، فالمركز عوّل أساساً على توزيع الأدوار، وأعطى ثقلاً أساسياً لأعضائه في الخارج، إلا أنّ نبيل رجب وجد نفسه أمام مسؤوليات ضخمة، وأصبح في الفترة الأخيرة الاسم الحقوقي البارز على مستوى العالم، وهو ما منحه حصانة ما للحؤول دون اعتقاله، برغم التهديدات المتعدّدة الأشكال التي لم تتوقف.

لا ينشغل الحقوقيون في البحرين كثيراً بمعالجة ثنائيّة السياسي والحقوقي، فما يحدث على الأرض أسقط النقاشات التّقليديّة، ولم تعد الجهات الدّوليّة معنيّة أصلاً بمناقشة هذه الإثارات. من هذه النّاحية، لا يمكن للحديث الإعلامي الموجّه ضد مريم الخواجة أن يؤتي أكله، فبعد جلسة الكونغرس تلقت الأخيرة المزيدَ من "العُروض" في أنحاء أمريكا، وفي أجندتها دعوات لا يمكن تلبيتها جميعاً في وقتٍ قريب. ليس على السّلطات في البحرين إذن إلا الاعتراف بأنّ سمعتها في الخارج لا يمكن تحسينها بمداخلات إعلامية وصحافيّة ذات طابع أمني، كما هو حال الصّحافة والإعلام في البلاد، وبدون استثناء. أمّا حملات تلميع الصّورة وجُهود العلاقات العامة في الخارج، فهي جاءت متأخرة كثيراً، وتواصلها على هذه الوتيرة يُمعِن في إظهار أسوأ في السّلطة. 


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus