نبيل تمام والخروج على تجربة العتمة: أيها الصندوق.. لستَ آخر معاركي

2013-01-28 - 12:01 م


مرآة البحرين (خاص): "هي ثلاثة أيام فقط التي عايشتها داخل زنازين التعذيب، أطلق سراحي بعدها بسبب المرض، لكنها كانت كافية لتفعل بي ما لم تفعله الغدد اللمفاوية الخبيثة، هزمت الأولى، والثانية لا تزال تتربّص بي، لكني سأهزمها يوماً حتماً" نبيل تمّام

الصندوق ..

داخل كل منا صندوقه الخاص، في هذا الصندوق يخبئ أحدنا آلامه وإحباطاته وتجاربه المرّة، يحاول أن يعزلها عن منطقة تفكيره كي لا تسحبه إليها، لكنه ربما دون أن يدري، يجد نفسه أسيرها. إبقاء الصندوق مغلقاً ليس حلاً، الحل هو فتحه على مساحة الكلام والمواجهة، لن نتجاوز الصندوق ما لم نتحرّر من قبضته المحكمة في داخلنا. 

بعد خروج نبيل تمام من المعتقل في 13 ابريل 2011، آثر أن يبقى صامتاً قبل أن يطلب لقائي بعد قرابة الشهر، ظننت أنه قرر فتح تجربة سجنه على الكلام بعد الإلحاح المتكرر مني، لكنه لم يطلبني لذلك، "ما زال الوقت مبكراً على الكلام عن تجربتي القصيرة داخل السجن" قال. 

كان الموضوع الذي طلبني له مختلف: " التعذيب النفسي والجسدي الذي يتعرّض له المعتقلون يترك أثراً سلبياً خطيراً داخل نفوسهم، التعذيب المفرط والمذل والمهين والحاط من الكرامة الإنسانية لا يمكن أن يُمحى من الداخل بسهولة، هذا الأثر إذا بقي دون علاج سيتمكن من هزيمة صاحبه من الداخل، وربما سيجعله ينهار أو يتعرض لرد فعل سيء، ليس الجميع قادراً على تجاوز تجربته بنفسه، هناك من يحتاج إلى إعادة تأهيل لمعالجة الأثر السيء في داخله، لهذا أريد أن أُأسس جمعية لإعادة تأهيل ضحايا التعذيب، أريد أن أُأسس لها الآن مع مجموعة من الأطباء والمختصين النفسيين والحقوقيين والإعلاميين والناشطين المتطوعين، لقد تحدثت إلى عدد من الزملاء والزميلات وتحمسوا للفكرة، سنؤسس لها الآن وسنعلن عنها في الوقت المناسب، لهذا طلبتك".
رأيتها فكرة رائعة ومهمة جداً، لكني لم أعلم حينها أن نبيل كان يتحدث عن نفسه أيضاً، بل أنه كان يرى إلى الآخرين من خلال أثر تجربته نفسه، كان يشعر أنه أحد هؤلاء الذين هم بحاجة لإعادة التأهيل، أنه أحد المتضررين نفسياً بعد هذه التجربة المذلة والمهينة والحاطّة بالكرامة، لهذا أراد أن يؤسس مشروعاً يضم جميع هؤلاء ويعالجهم، بما فيهم نفسه. 

التأهيل النفسي..

 
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يطرح فيها نبيل فكرة الحاجة إلى "إعادة تأهيل"، ففي عام 2008 انضم إلى الأمانة العامة للجمعية البحرينية لحقوق الإنسان وترأس لجنة مركز (الكرامة) لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب، وكان هدف عملها هو هذا تماماً.

في 2011، بدأ نبيل العمل على تنفيذ فكرته مع مجموعة الطبيبات اللآتي تم الإفراج عنهن، جلسات أسبوعية استمرت على مدى 10 أسابيع، "كنت الرجل الوحيد بينهن، المفرج عنه الوحيد من الكادر الطبي من الرجال، قلت لهن: أنتن بحاجة إلى هذه الجلسات من أجل أنفسكن أولاً، ومن أجل أزواجكن الذين يقضون خلف القضبان وسيخرجون وهم في أمس الحاجة إلى قوتكن". يعتقد نبيل أن الجلسات لم تنجح كثيراً، لم تلقَ تجاوباً كافياً من الطبيبات، لا تزال ثقافة المجموعات جديدة على مجتمعنا، بقت الفكرة قيد التطوير. بعضهم أخذ الفكرة وأنشأ مؤسسة تحمل الاختصاص نفسه، لم يعبأ نبيل، كان الهدف بالنسبة إليه هو الأهم. 

في 2012 يؤسس نبيل لجنة (رحاب) للدعم النفسي ضمن لجان الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان. لم يطلقها كمؤسسة مستقلة بل أبقاها تحت مظلة جمعية حقوق الإنسان. تقدّم للعمل معه 12 من الشباب المتطوعين المتخصصين والعاملين في حقل الخدمة الاجتماعية وعلم النفس. هذه اللجنة تواصل عملها حتى الآن بهدوء شديد وبعيداً عن الأضواء والضوضاء، تنظم برامج زيارات كل يوم سبت من الساعة العاشرة وحتى الثانية عشر صباحاً، تزور عوائل المعتقلين في المناطق والقرى المختلفة، تجلس مع المتضررين نفسياً بشكل فردي، وتعالج الحالات التي يتضح أنها بحاجة لإعادة التأهيل النفسي.

خلخلة الصندوق..

تجربة نبيل الخاصة بقت محصورة داخل صندوقه الخاص، ربما لأنها تزامنت مع تجارب مرهقة أخرى، تراكم التجارب المؤلمة في وقت واحد يجعل الأمر أكثر تعقيداً. قلت له ذات مرة "اكتبها لكي تتحرر من عنف بقاياها فيك، فالكتابة فتح الداخل، وفتح الداخل تحريره". وعدني، لكن العنف كان أقوى، بقت الكتابة مؤجلة.

في شهر ديسمبر الماضي، قرر نبيل كتابة تجربته، وفعل، لكنه لم يستطع الدخول في تفاصيل تجربته، بقي واقفاً عند أطرافها فقط، كان التشويش كبيراً، والصندوق عصي على الفتح، لهذا عندما انتهى من كتابة التجربة لم يشعر بإنجاز الفتح، بل عاش رد فعل الصندوق أكثر، ولهذا كان لا بد من الجلوس مع نبيل، وخلخلة إحكام الصندوق بالقدر الذي أمكن. 

يمكننا أن نقول أنه منذ 2009 حتى الآن، ونبيل تمام في رحلة دؤوبة لتتويج الانتصارات على كل ما هو سرطاني، فـ"كل ما يباغتك أو يقتحمك أو ينتشر فيك، لينشئ كيانه على حساب كيانك الخاص، هو سرطان يجب استئصاله بلا ضعف وبلا خوف وبلا تردد". ستتنوع أشكال السرطانات في حياة نبيل، لكن تبقى كياناتها واحدة، وقبضتها واحدة، وانتشارها واحد، وسيبقى تحدي استئصالها واحد. 

في 2009 كان نبيل تمام في غزة يواجه غزو السرطان الصهيوني، وعاد بعد أن انتصرت غزة، وفي 2010 كان في مواجهة جديدة مع سرطان الغدد الليمفاوية، وعاد بعد أن هزمها معنوياً، وفي 2011 دخل تجربة غزو سرطاني آخر لا يزال يعايشها، ولا يزال مصراً أن ينتصر عليها مهما كلّفه الأمر من معاناة وتعب، لكن ليس استسلام. 

قبل الاعتقال..

يتذكر نبيل: "قبل الضربة الأولى للدوار في 17 فبراير، كنت مواظباً على الحضور في الخيمة الطبية بشكل يومي، وقد نقلت لها عدداً من الأجهزة والمعدات والأدوية من عيادتي الخاصة، خسرتها جميعها في ذلك اليوم. بعد العودة الثانية للدوار لم أواظب على الحضور بشكل يومي، وذلك بسبب موعد جرعتي الكيماوية الرابعة في شهر مارس، ولهذا اضطررت إلى ملازمة البيت لأيام".

"في يوم 16 مارس كنت داخل المستشفى، وعايشت محاصرة السلمانية بالدبابات والأسلحة وبقيت محجوزاً مع الآخرين لمدة 4 أيام، كنت حينها رئيس قسم الأذن والأنف والحنجرة، أنام في غرفة رئيس الدائرة في جناح 66 وأستحم في حمام المرضى في جناح 65، ولم يتسنَ لي الخروج إلا في اليوم الخامس وبعد أن تأكدت من خروج جميع الطاقم الطبي الذي كنت مسؤولا عنه. شهدت اعتقال الدكتور علي العكري بشكل وحشي وفج من غرفة العمليات. وصلت البيت وبادرت بالاتصال بصحيفة الوسط البحرينية حيث أبديت احتجاجي على الهجوم العسكري على المستشفى وقدمت استقالتي كرئيس قسم في وزارة الصحة احتجاجاً، وخاطبت هاتفيا الإذاعة الأسترالية وشرحت لهم ما حدث خلال احتجازنا في المستشفى، وتهيأت للاعتقال".

ثم اُختطفت..

 
يكمل نبيل: "صباح الاثنين 11 ابريل 2011 كنت في جامعة الخليج العربي أُعطي درساً نظرياً لطلبة السنة السادسة في كلية الطب، أعمل هناك في منصب أستاذ مساعد بدوام جزئي. وردني اتصال هاتفي من مكتب الرئيس التنفيذي لمجمع السلمانية الطبي لحضور اجتماع إداري الساعة 12 ظهرا. تواجدت على الوقت وكان حاضرا معي 4 من الاستشاريين وهم د.عارف رجب ود.شهيد فضل ود.نبيل حميد ود.زهرة السماك. حضر الرئيس التنفيذي ونفى دعوته للاجتماع، توجسنا الاعتقال، لم يمهلنا الوقت طويلاً، دخل علينا قرابة 10-12 رجلا مسلحاً بلباس مدني (فعرفنا أنهم من قسم المخابرات) أخذوا هواتفنا واصطحبونا لمبنى التحقيقات العامة وبدون أي إخطار أو إبراز إفادة بالقبض علينا، لهذا اعتبرته اختطافا في وضح النهار ومن مبنى عام وصرح طبي عام وأمام بصر المدير التنفيذي للمستشفى وآخرين من الإدارة والموظفين".

فائزون في جائزة التعذيب..

"في مبنى التحقيقات بالعدلية، التعذيب وجبات مستمرة طوال اليوم، التخمة فيها هي الأصل، كنت أشعر بجمجمتي ترتج بين أيديهم ومخي يتبعثر، تباغتني ضربة موجعة على كليتي اليمنى، أتلوى ألماً فيزيدوني ضرباً، كان مطلوباً مني الاعتراف بأن الطواقم الطبية هم من أدخلوا الأسلحة النارية إلى غرف العمليات بالمستشفى وأننا نحن من وسّع جرح الشهيد عبد الرضا بوحميد وقتله، وكان جوابي: أنتم من فعل هذا، ودفعت ثمن جوابي غاليا من التعذيب والضرب والشتم والركل في كل أنحاء جسدي".

"لا يمكنك أن تدرك معنى التلذّذ بممارسة التعذيب ما لم تر ذلك بنفسك في معتقلات التعذيب. لقد كانوا يتلذذون بإهانتنا وتعذيبنا، وكان كل واحدٍ منهم يحاول أن يُري الآخرين أنه الأكثر مهارة في الإذلال، كان التنافس قوياً، والجميع متفوقون في مهمّة الاذلال، الجميع فائزٌ في جائزة التعذيب الأكثر وحشية. ولأننا أطباء كان الامعان في الحط من كرامتنا أكثر، سيقف معذبك الذي تقل شهادته عن الثانوية العامة، وسيسفّهك بعبارات لم تسمعها أو تتلفظ بها في حياتك لفرط سوقيتها، وسيأمرك أن تقلد أصوات الحيوانات أو مشيتهم، وأن تنشد السلام الملكي، وسيمعن في ضربك وأنت تقوم بكل هذا، وأنت لا تصدّق أن هذا يحدث لك أنت، أنت الذي قضيت عمرك محل فخر وطنك وأهلك وناسك ونفسك! أنت الذي لم تعرف يوماً سوى منح الناس أن يعيشوا حياتهم بصحة أفضل، وبأمان نفسي أكثر! أنت اليوم لست نفسك!".

قتلناه ورمينا جثته..

كان نبيل ينتظر جرعته الكيماوية في شهر مايو، أي بعد قرابة أسبوعين من تاريخ اعتقاله. يقول لمعذبيه: "لدي هبوط حاد في عدد كرات الدم البيضاء، المناعة منخفضة لدي إلى درجة 2، أي التهاب أتعرض له قد أموت بسببه، وإذا مت ستتحملون أنتم المسؤولية". يأتي الجواب: "يصيبك التهاب؟! هذا هو المطلوب، إنشالله تموت يا خاين يا صفوي يا بن المتعة يا......". 

يحقّق معه مبارك بن حويل، فيخبره نبيل: "من الضروري أن يأخذوني إلى مركز الأورام لأخذ جرعتي الكيماوية"، فيرد عليه الأخير: "ما في جرعة، إحنا بنخليك تموت هني". 

عينه المصمّدة لا تمكنه من رؤية وجه معذبه وهو يعترف بصيغة تهديد: "شفت الجثة المرمية في الزبالة اللي في سار؟ هذا إحنا اللي قتلناه ورميناه هناك، وبنسوي فيكم نفس الشيء". كان المعذّب يشير إلى جثة الشهيد سيد حميد محفوظ الذي افتقده أهله ليومين قبل أن يُعثر عليه ملقى عند سيارته قريباً من محطة سار، وذلك في 6 أبريل، أي قبل اعتقال نبيل بأيام، سبقها أيضاً العثور على جثة الشهيد هاني عبد العزيز، ملقاة تحت إحدى البنايات في منطقة البلاد القديم في 24 مارس، ترك ينزف حد الموت متأثر بطلقات الرصاص الانشطاري. في ذلك الوقت، كانت شهوة القتل عند النظام، أوشكت أن تصير عُرفاً، لو لا أن أوقفها الاستنكار العالمي والضغط الدولي.

صورة طفلي إرم..

يصاب نبيل بالإرهاق الشديد وينقل إلى عيادة القلعة، تؤخذ عينات من الدم، تخطيط القلب يظهر أن ضغط الدم ليس منتظماً "تم وضع سائل الجلوكوز في أوردتي وجلست لمدة 3 ساعات تقريبا، كانت تلك أفضل ساعات قضيتها في التوقيف، تمكنت فيها من الجلوس والذهاب لدورة المياه. أعادوني بعدها للتوقيف، حيث الجميع لا يزال واقفاً مصمّد العينين، وعدت للوقوف في ذلك المكان الذي تفوح منه رائحة الكافور المزعج، ولا يسمح لنا بالكلام إلا وتنهال علينا اللكمات".

في عتمة المعتقل، وجسده المنهك من شدّة التعذيب، يرفع نبيل رأسه إلى الأعلى وعيناه مصمّدتان، لا شيء يلوح في الأفق غير سواد أرعن وانتقام أهوج، كل شيء يسير نحو مجهول موحش وكئيب، هل ستكون النهاية هنا؟ تكاد قوى نبيل تنسحب نحو الانهيار، لكنه يتدارك نفسه بسرعة، ينفض رأسه ليخرج الأفكار السوداء، يوغل في النظر داخل عصابته الحالكة، ها هو يرى وجهاً صغيراً يبتسم له، يتأمل جيداً، إنه وجه ابنه الأصغر إرم (9سنوات). يتذكر نبيل كم كلّف قدوم ابنه إرم إلى الحياة، لم يكن ذلك سهلاً أبداً "كان كان لدينا هشام فقط، مررنا بعدة تجارب حمل لم يشأ لها أن تكتمل، الأولاد يجهضون والبنات يموتون، دفنتُ 4 بنات. كلفنا قدوم إرم 10000 دولار. 10 سنوات هو فارق العمر بين هشام وإرم. عملنا تلقيح صناعي وكان نتيجة الحمل توأم بنت وولد. لكن بعد 26 أسبوعاً من الحمل أخبرنا الطبيب أن البنت ماتت. الطبيبة فريال الدعيسي (هاجرت إلى بريطانيا بسبب الوضع الأمني) أنقذت إرم بعملية جراحية من الموت. مدين أنا لها بذلك، أطلقنا عليه اسم (إرم) رغم أنه اسم لفتاة. كان صغيراً جداً ووضع في الحاضنة   لمدة شهر ونصف. كنت أجلس معه يومياً لساعات قبل فترة دوامي وبعدها. في تلك الليلة داخل المعتقل صورة إرم وابتسمت، قلت لنفسي: لقد وقفت مع إرم في محنته، وسيقف هو معي في محنتي وسيقويني، لم يخذلني إرم، كان لصورته دور كبير في صمودي ومنعي من الانهيار"

هكذا خرجت من المعتقل..
 
في ذلك الوقت كان وضع النظام بدأ يصير مُحرِجاً أمام العالم، ضحيتان قضتا تحت التعذيب داخل المعتقلات هما زكريا العشيري (9 ابريل)، وعبد الكريم فخراوي (11 ابريل). لم يعد الأمر يحتمل فضيحة ثالثة أمام العالم. ولأن نبيل في حالة من ضعف المناعة قد تؤدي به إلى الموت في أية لحظة، كان لا بد من الإفراج عنه تجنباً لفضيحة محتملة. هكذا أفرج عن نبيل تمام في 13 إبريل بكفالة مادية قدرها 3000 دينار. "لأول مرة اكتشف أن الابتلاء بمرض خطير كالسرطان، قد يكون سبباً للنجاة من بلاء أشدّ خطورة وضراوة هو الموت تحت التعذيب".

لم يبق نبيل طويلاً في المعتقل إذاً "هي ثلاثة أيام فقط التي عايشتها داخل زنازين التعذيب، لكنها كانت كافية لتفعل بي ما لم تفعله الغدد اللمفاوية الخبيثة، هزمت الأولى، والثانية لا زالت تتربّص بي". نبيل المعروف بشخصيته الهادئة والمتزنة الكثيرة التعمّق، يخرج "مشوش الذهن والتفكير" هكذا يروي عن نفسه، يضيف "الضرب المبرح والمتواصل على رأسي أثر على ذاكرتي، كما أثر على وضوح الرؤية عندي في النضج في التفكير، ودون أن أعي صرت عدوانياً وشرساً في الأيام الأولى، يكفي أن تعرفوا أنني وزوجتي تطلقنا بعد أسبوع من خروجي من المعتقل، نعم كانت هناك مقدمات سابقة، لكن لم تصل إلى هذا الحد، حالتي بعد السجن كانت هي القشّة". 
لماذا خرجت؟

"بعد خروجي مباشرة بدأت أعيش حالات من الانهيار النفسي، لكني في كل مرة أعيد تفكيري كي أخرج منها إلى منطقة إيجابية، كانت واحدة من حالات انهياري هي شعوري بالخيانة، كنت الرجل الوحيد الذي أفرج عنه من الكادر الطبي، الباقي كلهن من النساء. كان شعوراً بالذنب يقتلني، بقيت ليلة كاملة أصارع نفسي لأخرج من هذا التفكير السلبي والمحبط، وعند الفجر لمحت لي بارقة ضوء: هي هكذا، لقد جعلني الله مريضاً لكي أخرج من المعتقل، وجعلني الله أخرج من المعتقل لأعمل من أجل زملائي في الداخل، لا بد من أحد في الخارج ليعمل من أجل الباقين، هذه هي مهمّتي التي أخرجني القدر من أجلها، الخيانة هي أن أنشغل عن هذا الدور، وأن لا أبذل كل ما أستطيع في هذا الاتجاه. كانت هذه البارقة كافية لتخرجني من حالة انهياري لحالة مختلفة تماماً، لقد عرفت ما يجب علي فعله، ومنذ ذلك اليوم لم أبارح مهمتي قيد شعرة". 

جلسات إعادة التأهيل التي بدأها نبيل مع الطبيبات المفرج عنهن (عدد منهن زوجات لأطباء معتقلين)، كانت جزءاً من هذه المسؤولية التي وضعها على عاتقه، وقد أثارت هذه الشرارة إحدى الطبيبات (زوجة طبيب معتقل)، عندما زارته في عيادته الخاصة التي أعاد فتحها في صيف 2011، وقالت له بقلق كبير وانهيار: نبيل، ماذا نفعل لأزواجنا عندما يخرجون؟ شعر بأنه مسؤول أكثر.

الأثر الرجعي..

 
ورغم الانشغال الذي أغرق نبيل نفسه فيه للعمل من أجل الكادر الطبي، إلا أن ذلك لم يحرره من قبضة الصندوق والأثر الرجعي للتجربة، لا يزال الشريط المثقل بالصور والذكريات يهزه من الداخل، ولا يزال غير قادر على تجاوزه بسهولة، " قبل اعتقالي بأيام، صحوت عند الفجر على صوت حركة في الخارج، ذهبت مباشرة إلى النافذة، شاهدت 5 أجياب شرطة تهاجم بيتاً قريباً منا، بقيت متسمراً في رعب من هول المشهد الذي لم نكن معتادين عليه حينها، لم ألحظ أن 5 مسلحين آخرين كانوا يقفون تحت نافذتي مباشرة. هذا المشهد لا يذهب عن ذاكرتي. ورغم أني تركت البيت وأسكن الآن في شقة في منطقة سار، إلا أني لا أزال أستيقظ معظم الليالي في الوقت نفسه، أطل من النافذة إلى الخارج، وتجتاحني نوبات بكاء" نعم لا تتعجبوا، هكذا يفعل الأثر الرجعي للتجربة السيئة داخل النفس البشرية. 

فتح الصندوق..

لم يكن سهلاً على نبيل البوح بهذا، رغم أنه يعلم تماماً أن فتح الكلام هو جزء من إعادة تأهيل الذات، لكن المعرفة تصطدم بالصندوق الذي يظل يقاوم المواجهة. في حواري الأخير معه قبل كتابة هذه التجربة بقت بعض الأسئلة مفتوحة، كان يعصر نفسه ليجيب وأرى الكلام في عينيه وهما تحتقنان بالدموع لكنه لايستطيع إخراجه، فأغير السؤال. لكن كما هي عادته، يقرّر نبيل أن يواجه لينتصر، هكذا تعلّم، وهكذا عوّد نفسه: "من هزم السرطان سوف لن يهزمه هذا الصندوق اللعين، إنها مسألة وقت فقط وقد نجحت بالفعل في إحداث بعض الفتحات في صندوقي، ولن أتوقف حتى أهشمه بالكامل في داخلي". 
 
يضيف نبيل: "بعد خروجي من المعتقل، لم أكن أستطع حتى المرور قرب مبنى التحقيقات سيىء الصيت، كان مجرد المرور يجعلني أستحضر كل الصور المؤلمة وأعيش وضعاً نفسياً سيئاً جداً، بقيت شهوراً قبل أن أتمكن من المواجهة. بدأت أقود سيارتي إلى هذا المبنى، أوقفها في مكان قريب مواجه له تماماً، وأبقى مركزاً بصري عليه لمدة طويلة، لم يكن الأمر سهلاً، كنت أعاني كثيراً كي أصمد، لكني أخيراً تمكنت من الانتصار عليه، استغرق الأمر مني قرابة 6 شهور كي أتجاوز عقدة هذا المكان فقط" 

يحضر نبيل الآن دورات في التأمل من أجل أن يستعيد توازنه الداخلي وهدوئه النفسي، يمارس التأمل، يقرأ الكثير من الكتب ذات العلاقة بالتفكير الإيجابي، يؤمن أنه سيهزم ما تبقى من أثر المعتقل في داخله، وأن تطلب الأمر بعض الوقت، يعمل بلا هوادة مع فريق المتطوعين في مشروعه في لجنة (رحاب) لإعادة تأهيل ضحايا العنف والتعذيب، ويعمل بلا هوادة أيضاً للدفاع عن حرية زملائه الذين لا يزالون يقضون العقوبات الجائرة داخل المعتقل "سأعمل من أجلهم وإن بقيت وحدي في النهاية، لن أعتب على أحد إن قصّر في حق زملاء المهنة، وسأبقى أعمل من أجل القضية التي أؤمن بها، وهذا يكفيني". 


هامش تعريفي:
  • نبيل تمام إستشاري الأنف والأذن والحنجرة وذو اختصاص في علاج مشاكل الصوت، فقد أنشأ أول عيادة متخصصة في الصوت في منطقة الخليج العربي في مستشفى السلمانية.
  • رئيس قسم الأذن والحنجرة قبل أن يقدم استقالته احتجاجاً على محاصرة مستشفى السلمانية من قبل الجيش في 16 مارس 2011.
  • تم توقيفه عن العمل في 11 إبريل ولمدة عام كامل بعد خدمة 25 سنة في وزارة الصحة.
  • تم إيقافه عن العمل في عيادته الخاصة، وتحديا لحصار قطع الرزق والتجويع أعاد فتحها بعد 3 أشهر.
  • حوكم عسكرياً في يونيو 2011 قبل أن يتم تحويل قضية الكادر الطبي إلى القضاء المدني، في نوفمبر 2012 حكم عليه بالسجن 3 شهور ودفع غرامة 200 دينار بحريني لعدم النفاذ، وفي انتظار محكمة الاسئناف التي تحدد لها جلسة في 5 مارس 2013.

 


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus