طبيب الأسنان، غسان ضيف، في التحقيقات: الكلية اللي شلتها من بطن المريضة السنية وين وديتها؟ «3-4»

2012-12-05 - 3:16 م


مرآة البحرين (خاص): عائلة ضيف كان لها وضعها الخاص، اعتقال 3 أطباء من العائلة نفسها: غسان، وزوجته زهرة السمّاك، وأخيه الأكبر باسم. الجميع حوكموا عسكرياً. أطفال غسان وزهرة المدللين والمرفهين، وقعوا في تجربة أكبر من أن يتخيلوها فضلاً عن أن يعيشوها: أكثر من 3 أسابيع بلا أم ولا أب، وأكثر من خمسة أشهر بلا أب، وتجربة مرعبة لهم في مبنى التحقيقات، وترقب مجهول لم يكونوا يعرفون معه أي مصير ينتظر والديهم، لقد كبروا فجأة، وانكسر في داخلهم الكثير الكثير، عدا شعورهم بالفخر لما قام به والداهما، لا زال يهذا الشعور يكبر كل يوم.

في الحلقة السابقة، عايشنا لحظات اعتقال غسان ضيف على لسان زوجته وأطفاله، والتتابعات التي اقتيدوا لها بعد ذلك، ثم اعتقال زوجته زهرة لأكثر من 3 أسابيع. في هذه الحلقة، يروي لنا غسان تجربته كما عايشها، منذ لحظة أخذه من المطار حتى الخروج من المعتقل الذي رجع إليه في  2أكتوبر2012 وما زال فيه حتى اللحظة.. 

برنامج الراصد

 
"قبل أيام من إعلان قانون الطوارئ، تم تنفيذ مخطط إعلامي كبير وخطير لتبرير ضرب السلمانية الذي من الواضح أنه بات مخططاً له. في برنامج الراصد بتلفزيون البحرين، تم اتهامي والدكتور العكري وعدد من الأطباء بأننا مخربون وإرهابيون، وأننا قمنا باحتلال مستشفى السلمانية واحتجزنا رهائن من الأطباء من الأخوة (السنّة) وأن الطائفة السنية في خطر، وأن هناك أسلحة وسيطرة على الأقسام، وغيرها من الأكاذيب، وبدأ الترويج الإعلامي لهذا بكل الطرق. تأكدت عندها أن هناك ما يتم تدبيره لنا للانتقام منا على معالجة الجرحى".

يكمل غسان: "قمت بالاتصال بالوكيل المساعد لشؤون المستشفيات الدكتور أمين الساعاتي في نفس الليلة، طلبت منه التدخل باعتباره مسؤولي المباشر، وأن كل ما قمنا به داخل المستشفى بعلمه وموافقته. لم يكترث، وتكلم معي بلهجة باردة: "ما عليك منهم، هذلين ما بسوون شي ولا عندهم سالفة". ثم أعطى الهاتف للدكتور عادل بوجيري رئيس قسم الأطفال في السلمانية، الذي حاول تطميني هو الآخر بأنه سيتصل بالتلفزيون وسيخبرهم أن المستشفى آمن، وأن ما يطرح عن هؤلاء الأطباء غير صحيح. لا أعرف ماذا حدث بالضبط، لكني سمعت أن الدكتور عادل حاول الاتصال فعلاً".

مطلوب متلبساً..

لهذا كله، طلب غسان إجازة 3 أيام ابتداء من يوم الثلاثاء 16 إلى الخميس 19 مارس، وبعد اعتقال العكري تيقن أنه هو التالي "عرفت أيضاً أن الدكتور محمود أصغر تم اعتقاله من مجمع السلمانية الطبي، أثناء تواجدي في المعتقل كان المخبرون والمعذبون، يقولون لي إنهم أرادوا اعتقالي متلبساً داخل المستشفى، لتثبيت تهمة الاحتلال علي كما فعلوا مع العكري، لكن عدم وجودي أربكهم"

"يوم الجمعة، بلغني أنهم هجموا على قسم العمليات. الدكتور عارف رجب يقوم باجراء عملية، وكانوا يظنون أنه أنا، فدخلوا عليه وهددوه بالسلاح، وحاولوا معرفة معلومات عني وهددوهم ليدلّوهم أين أختبئ في السلمانية، ذهبوا إلى الصيدلية، تم تكسير مجموعة من الأبواب ظناً منهم أني مختبئ هناك".

في المطار..

"هكذا قررنا السفر"، يكمل غسان، "في تلك الليلة ودعت أخي باسم، وحده من أعلمته بقراري، كانت لحظة الوداع مؤلمة وتحمل الكثير من الشعور بالفقد. خرجت من البيت، مررنا بعدد من نقاط التفتيش، لم يتم توقيفنا، مجرد أسئلة عادية. الأصعب كان الدخول إلى المطار، تفتيش واطلاع على الجوازات والأوراق. لكننا عبرنا. انتهينا من الـ(check in)، أدخلنا الشنط، أخذنا بطاقات صعود الطائرة. عند الجوازات قدمت جواز ابني محمد: وين بتسافرون؟ لندن عن طريق أبوظبي. تم الختم. جوازي كان التالي. عرضه على الكومبيوتر، طالع فيه، سألني: أنت غسان؟ قلت: نعم. قال لي: تفضل على جنب لو سمحت. لم أكن خائفاً، كنت أحاول أن أكون قوياً فعلاً، وأن لا أبدو متوتراً أو مرتبكاً". 

يكمل غسان "جاء مجموعة من الأشخاص بلباس مدني، اقتادوني إلى غرفة بجانب مكتب الجوازات، وهناك تم وضع كيس أسود على وجهي مباشرة، و(هفكري) من الخلف، وبدأ الضرب".

"حوالي ساعة كاملة، لم يكن شيئاً آخر غير الضرب في كل أنحاء الجسم: الوجه والرأس والرجل والبطن وكل مكان. الضرب كل شيء: بالأخشاب وبالهوز وبالأيدي، كانت مجموعة تدخل وأخرى تخرج، والكل يضرب". 

الكيس الأسود..

 
"الشيء الوحيد الذي أثر فيّ وقتها هو الكيس الأسود، فأنا لدي خوف من الأماكن المغلقة، وكان هذا الكيس الأسود الخانق يرعبني. قلت لهم: ارفعوا هذا الكيس عن رأسي، أجاب أحدهم: سنقتلك قبل أن نرفعه، ستموت وأنت داخل هذا الكيس الأسود. قلت لهم: لماذا تفعلون بي هذا؟ أنا طبيب ولست مجرما هاربا، لقد خرجت من بيتي ولم أفعل شيئاً. كانوا يزيدون في الضرب".

يكمل غسان: "تم اقتيادي إلى خارج المطار، والكيس الأسود مازال يخنق رأسي ورقبتي، شعرت أني سرت مسافة ليست قصيرة قبل أن يركبوني سيارة، تم إنزال رأسي للأسفل. قطعنا مسافة طويلة ثم وقفت السيارة في مكان ما، وبمجرد نزولي تم الهجوم علي بالضرب والركل والصفع من كل مكان وفي كل مكان، خلال دقائق فقدت وعيي وسقطت مغشياً عليّ". 

يتابع: "لا أعرف ماذا حدث بعدها، لكن أتوقع أنهم خافوا أن أكون قد مت، استعدت وعيي وهم يرشون الماء على وجهي. من بين الأصوات ميزت صوت امرأة عرفت فيما بعد أنها الشيخة نورة الخليفة، كانت تقول لي: غسانو إنت تقدر تطيّح خليفة بن سلمان؟ كفو، وانهالت علي بالضرب واللكمات".

"أخذوني بعدها إلى مكتب مبارك بن حويل، وبدأ حفل الزار من الكلام السوقي والشتم والسب واللعن والاستهزاء والسخرية وكل شيء: عائلتي أهلي ومذهبي ورجال الدين وحتى أهل بيت الرسول. كانت الأسئلة جميعها تدور حول علي العكري، وأنه المخطط لكل شيء، وأنني ظهرت على قناة الجزيرة بأمر منه وقلت ما قلت بتوجيهه. وأننا نحن من أدخل الإعلام إلى السلمانية، وأن عبد الرضا بوحميد نحن من وسّع جرحه وكسر جمجمته وقتله" يضيف غسان "التحقيق الأول لم يتجاوز الساعة. أخرجوني من غرفة مبارك بن حويل، وفي الطريق كنت أسمع صراخ باسم أخي وهو يعذب: "لا تضربوني.. لا تعذبوني.." كان وقع صوته علي مثل الصاعقة!! كيف اعتقلوا أخي ومتى؟!"

زيدوني ضرباً..

لم يتعرض غسان لتجربة اعتقال من قبل، لهذا لم تكن له خبرة في الآليات التي يستخدمها المعذبون في اللعب على نفسيات المعتقلين ومشاعرهم وأعصابهم، ولم تكن لديه خبرة فيما يقوله وما لا يقوله في التحقيقات.  "كانت تجربة الاعتقال بكرا بالنسبة لي، لهذا كانوا يسألوني، وكنت أجيب بالحقيقة فيزيدوني ضرباً، في حين هم يكتبون ما يريدون. كذلك كان إسماعي لصوت أخي  متعمداً، لكنه هزني بعمق وكسرني". يكمل غسان: " المهم أني مجبر، كنت أوقع على حزمة اعترافات لا أدري عنها شيئاً، طلبت محاميا، قالو لي: "لما نوديك القبر بيجيك المحامي هناك". تلك الليلة قضيناها واقفين بالكامل. لا أعرف أين كنت، لكن كان معي مجموعة من الأشخاص. لأنه كلما دخل واحد ضرب الجميع، وكنت أسمع أصوات المعذبين معي. عرفت أن باسماً معي في نفس المكان. بقينا على هذا الحال يوما كاملا بلا أكل ولا حمام ولا سماح لنا بالنوم.

بعدها نقلت إلى سجن انفرادي. مكان صغير جداً حوالي متر في متر ونصف. باسم في غرفة لصيقة لي. كنت أسمع صوته. قضينا فيها قرابة أسبوعين من الضرب والتعذيب القاسي القاسي جدا. في نفس الليلة وفي وقت متأخر جداً، دخل علي عدد من المعذبين، تبينت أن أصولهم غير بحرينية من لهجاتهم. يدخلون علي ويسألونني عن عملي وراتبي ويبدأ السب والشتم والإهانة. أخذني شرطي أردني إلى الخارج وهو يضربني. كنت أقع على الأرض من شدة ضرباته. أخذني لمكان ما، ونزع "الهفكري". عرفت أنه سيأخد بصمات. كل مرة يأخذ البصمات بالخطأ ويضربني: "إنت ما تبي تاخذ البصمات صح". أنا لا أعرف كيف يتم أخذ البصمات أصلاً، كان هو من يتحكم في يدي. بعدها تم تصويري وأخذني للحمام لأغسل يدي عن الحبر. لم يكن هناك صابون، وثمة زجاجة مكسورة. نزع عني العصابة لأغسل يدي. رأيت شكلي في الزجاجة. راعني شكلي من النفخ الذي صار فيه. هل هذا أنا حقاً؟!".

كان ممنوعا عني قضاء الحاجة. فقط غسل سريع لليد. بعدها أعادني إلى نفس الزنزانة. قضيت الليالي السبع  مصمد الأعين ممنوعاً من الجلوس، والكل يدخل يضرب ويخرج. ممنوع أن تجلس أو تستند على جدار. ولو دخل عليك وأنت مستند إلى جدار سيكون الثمن غاليا جداً. أحياناً كنت أنهار وأقع. وأشعر بدخوله فأحاول النهوض، فتزداد وجبة الضرب. لم نكن ننام ولم ندخل الحمام. كنا نقضي حاجتنا في ملابسنا، كان من الجيد أننا لا نأكل طعاماً وإلا لصار الوضع أسوأ مع حاجاتنا. 

الآسيوي الرحيم..

في اليوم الرابع دخل شرطي أكثر رحمة ولباقة، تكلم بلهجة آسيوية، قال لي: أنا أشعر بك، أنا إنسان مثلما أنت إنسان، أجلس الآن وسآتي لك بالطعام. كنت أفكر: إذا أكلت كيف سأدخل الحمام؟ قال لي: سأتركك تدخل الحمام. قال لي بلكنة آسيوية: دقيقتين آني أبند باب، أشيل العصابة والهافكري، انت تاكل، دقيقتين وآني يدخل عليك"

يكمل غسان: " لم آكل شيئاً، فقط شربت بعض الماء، دخل علي بعد دقيقتين، وسألني: لماذا لا تأكل؟ قلت له: أنا أريد زوجتي وأولادي، أنا لم أفعل شيئا. قال لي: "ما يخاف إنت، أنت بس كم يوم ويروح البيت"، بمجرد أن قال لي ذلك انفعلت وبكيت. أخذني إلى الحمام وقال لي اغسل وجهك. أتى لي بصابون. سمح لي بالتبول. أعادني إلى الزنزانة وقال لي: كل شوية. أكلت قليلاً". 

الاتصال الأول..

بعد أسبوع أخرجونا من الحبس الانفرادي، أخذونا إلى صالة، كنت أشعر أن أخي باسماً معي. قالوا لنا: "بنخليكم تتصلون لأهاليكم، فقط نصف دقيقة لا غير، أخبروهم أنكم بخير فقط، لا تتكلم عن ضرب ولا عن شيء وإلا سترون الأسوأ".

أخذونا لغرفة مظلمة، يقف معنا شرطي، أخذ مني أرقام الهواتف. جميعها لا يمكن الاتصال بها لأنهم استولوا عليها، أخيراً رن هاتف رفعته زهرة. طمأنتهم وسمعت صوت من كان موجوداً منهم وارتحت قليلاً.
 
لم يسمحوا لنا بالاتصال مرة أخرى طوال 21 يوما قضيناها في مبنى التحقيقات. كان الطقس بارداً ومع هذا يشغّلون المكيفات ويوجهونها علينا بطريقة مهلكة. بعد أسبوع سمحوا لنا بالجلوس أثناء الوجبات الثلاث وشرب الماء والذهاب إلى الحمام. كان الحمام قمة في القذارة وفي الطريق إليه لا يصادفك أحد منهم إلا ويضربك بما لديه: بيده أو هراوته أو حذائه أو أي شيء تحت متناوله. لهذا كان الذهاب إلى الحمام انتحاراً بالنسبة لنا. 

أتبول دماً..

"من شدة التعذيب الذي تلقيته بالضرب على البطن والظهر، صار البول عندي والخروج مليئاً بالدم" يقول غسان، ويكمل "إحدى الليالي بسبب الآلام الشديدة في بطني وظهري أخذوني إلى عيادة القلعة. وهناك ذقت تعذيباً آخر من الممرضين والأطباء قبل أن يعيدوني، كان الذهاب إلى عيادة القلعة جحيما آخر". 

"في التحقيق الذي يمتد لقرابة 3-4 ساعات نقضيها وقوفاً، اللغة الوحيدة المستخدمة هي الضرب والإملاء عنك بما لم تقله. ستأكل وجبات من الضرب بالأخشاب والأهواز والأحذية والصعق بالكهرباء والتهديد باغتصاب زوجتي، أختي، ابنتي، أمي.. الخ وعليك أن تلتزم الصمت. كانوا يعرفون كل شيء عن حساباتي البنكية ويخبرونني بها، عرفت فيما بعد من زهرة أنهم سرقوا كل وثائقي وأوراقي من الخزنة الخاصة بي في البيت" يكمل غسان: "الفكرة الوحيدة المراد تثبيتها من التحقيقات هي الاعتراف بالاحتلال والأسلحة والاحتجاز والتمييز وسرقة أكياس الدم".

يردف: "أكثر الاتهامات سخافة من تلك التي وجهت لي: الكلية اللي شلتها من بطن المريضة السنية وين وديتها؟؟ كنت أجيبه: أنا طبيب أسنان ولست جراحاً. يقول: بلى، لقد اعترفوا عليك، وزوجتك اعترفت، أنت فتحت بطن السنية وأخذت كليتها، أين أخذتها؟!!! اعترف فوراً.

أخي باسم..

 
"كان أكثر ما يهزني ويكسرني صوت صراخ أخي باسم وهو يتعذب" يقول غسان بتنهد منكسر. يكمل "يتعمدون إسماعي صوته وهو يتعذب. كنت أنهار من الداخل وأتمنى لو تبلعني الأرض. كانوا يركزون الضرب على رجله وركبته تحديداً. هل لأنه جراح ركب؟ تورمت رجله وتضخمت. لم أكن أرى لكني كنت أسمعه وهو يقول لهم: "إذا ما أخذتوني للمستشفى رجولي هذي راح تنقص". فهمت أن الأمر وصل إلى درجة خطيرة معه فهو متخصص في الركب ويعرف ماذا يقول، ومن المؤكد أنه يعنيها حين يقول (راح تنقص). كان يشعر بها ستنفجر من شدة التضخم الذي وصلت إليه. كان عجزي عن مساعدته أو الوصول إليه يقتلني.. يقتلني..

التحقيق الأخير..

"التحقيق النهائي معي استغرق قرابة 7 ساعات". يكمل غسان: " أخذوني إلى مكان لا أعرفه، كان المحقق هادئاً ولأول مرة يسألني أحد عما حدث ويسمع مني. سألني عما حدث في السلمانية، فبدأت منذ أول اتصال تلقيته من الطبيبة المناوبة واسترسلت في الكلام. بقيت أتكلم بأريحية لدقائق قبل أن يفتح الباب ويدخل أحدهم ويشبعني ضرباً بالحذاء وصفعات باليد، وقعت على الأرض وهو يصرخ فيّ: تكذب غسانو.. يابن الـ(....) يا بن الـ(....). قال له المحقق: اتركه وابتعد، أنا من أحقق معه هنا. استمر التحقيق وكان مطلوباً تأكيد نفس التهم حول علي العكري بأنه ضد الحكومة وطالب بإسقاط النظام وأنه كان يريد أن يصير وزيراً... الخ. في نهاية التحقيقات، أحضروا لي حوالي 40-50 صفحة أُمرت أن أوقع عليها كاملة دون أن أقرأها. ففعلت".

بين النتانة والنجاسة..

في سجن الحوض الجاف، وضعنا الأطباء في عنبر رقم 5. مع الوقت بدأ عدد المعتقلين يتزايد، وصلنا 14 شخصا في الزنزانة الواحدة. كانت الزنزانة تضيق بنا وكذلك المعاملة. لكم أن تتخيلوا الحالة التي صرنا فيها، كل هذا العدد الكبير في زنزانة واحدة، ملابسنا لم تتبدل منذ 3 أسابيع جلبونا بها من التحقيقات، تفوح من أجسادنا وثيابنا رائحة النتانة والنجاسة (لم يكن مسموحاً لنا دخول الحمام في الأسبوع الاول)، بالإضافة إلى عدم السماح لنا بالاستحمام". 

كانت زهرة قد أخذت ملابس لغسان عندما كان في التحقيقات، لكنها لم تعط إليه وبقى بثيابه نفسها لأكثر من شهر ونصف. يكمل: "في سجن الحوض الجاف، ولمدة أسبوعين لم يكن هناك صابون. كنا نقضي حاجتنا وأبواب الحمام مفتوحة، تعطى لكل زنزانة 3 دقائق لاستخدام الحمام، 14 سجينا عليهم أن يوزعوا أنفسهم لاستخدام الحمام خلال 3 دقائق".

يا قلبي يا زهرة.. 

لم يكن غسان يعلم عن اعتقال زوجته زهرة حتى اعتقل الدكتور عارف رجب، ووضع معهم في الزنزانة ذاتها، وجاءه بالخبر المؤلم "هذا الخبر جعلني أنهار وأبكي كثيراً. لم أتوقع أبداً أن يتم اعتقال زهرة. بقيت قلقاً عليها جداً، لم أعرف كيف يمكن أن تحتمل مثل هذا الوضع الذي نعيشه. أعرف تماماً طبيعة زهرة وعاداتها ولا أتخيل أنها تقدر على هذا الوضع، وكلما سمعت المعتقلين يتحدثون عن تعذيب النساء والتعامل معهم ازددت قلقاً وخوفاً عليها. بقي ذهني مشغولا بها وعليها طوال الوقت. يا قلبي يا زهرة"..

مبنى التعذيب لا التحقيق

في سجن الحوض الجاف لم يكن يتم تعذيب المعتقلين، ثمة مكان له براعة التعذيب وفرادته، إنه مبنى التعذيب المسمّى بمبنى التحقيقات في العدلية. يقول غسان: "من أجل وجبات الضرب والتعذيب كانوا يأخذوننا إلى مبنى التحقيقات في العدلية. 4-5 من الكادر الطبي يأخذوننا معاً إلى هناك بهدف التعذيب طبعاً لا التحقيق. يتم ضربنا وإهانتنا وتشغيل المكيفات وتوجيهها علينا، نقضي ليلة أو ليلتين بهذا الوضع دون نوم ودون لحاف.

يكمل غسان: "في إحدى المرات أخذونا أنا وأخي باسم وإبراهيم الدمستاني بالإضافة إلى 2 من المسعفين إلى التحقيقات. ظننا أنها الوجبة المعتادة من التعذيب. تم تعصيب أعيننا كالمعتاد وتوثيق أيدينا للخلف. أركبونا في مصعد وأُدخلنا إلى غرفة. قال لي أحدهم: غسان إذا أفرجنا عنك شلون نتصل بك؟ كان يستهزئ بي، لكني كنت في حال أتعلق فيه بكل قشة، وكل كلمة أحملها بإيحاء إيجابي. أعطيته رقم هاتفي. أحضروا لنا رزمة جديدة من الأوراق وأمرونا بالتوقيع عليها دون قراءتها، ثم أعادونا إلى سجن الحوض الجاف".

الاتصال الثاني..

المرة الأخيرة كان أخذنا إلى التحقيقات مختلفاً. كيف؟ يقول غسان: " أخذونا أنا مع باسم  وعلي العكري ونادر الديواني ومحمود أصغر وسيد مرهون وابراهيم الدمستاني وعبد الخالق العريبي. تم نقلنا إلى قسم التحقيقات. كان عصر الجمعة. العصابة على أعيننا والأفكري يوثق أيدينا إلى الخلف. في ذلك اليوم عاملونا معاملة مختلفة جدا. أعطونا بطانية واحدة لكل ثلاث أو أربعة اشخاص. أتذكر أنا وباسم ونادر الديواني في بطانية واحدة، كما أعطونا وجبة، وسمح لنا بالصلاة والنوم. كنا متعجبين من هذه المعاملة غير المسبوقة". 

يكمل غسان "أيضاً سمح لنا بالاتصال بعوائلنا لمدة دقيقتين لكل واحد منا. كنت قلقاً جداً على زهرة ولا أعرف ما إذا أفرج عنها أم لا تزال معتقلة. كان الاتصال الثاني لي بعد شهرين من الاعتقال، قلت لهم دعونا أنا وأخي باسم نجري مكالمة في نفس الوقت لنحادث والدينا في مرة واحدة. وافقوا. أدخلونا مكتب المعذب صلاح المقهوي. لم يكن مكترثاً أن نعرفه فقال لهم: شيلوا العصابة عنهم". 

"اتصلت بهاتف زهرة، جاءني الجواب: لا يمكن الاتصال. اتصلت بهاتف ابنتي فاطمة وتكلمت معها ومع محمد ويوسف إخوتها وكانت والدتي معهم وقد وضعوا الهاتف على مكبر الصوت، مباشرة قالت والدتي أن زهرة خرجت لشراء حاجيات للمنزل. فهمت أن زهرة لا تزال معتقلة وأن والدتي لا تريد إخباري كي لا أنهار من القلق والخوف عليها. كان الأطفال يظهرون قوة عالية وصموداً. كانوا يطمئنوني: "بابا إحنا زينين ناكل ونشرب ونروح المدرسة ومو ناقصنا شيء"، صوتهم وصمودهم هدأني وطمأنني إلي حد ما".

صابون وشامبو وشمس؟!!

لم يقف الأمر عند هذا الحد من الكرم المفاجئ في التعامل، "صباح اليوم الثاني، أعطونا وجبة إفطار، كنت منفعلاً وأبكي. أخذوني إلى الحمام وأعطوني شامبو وصابون وسمحوا لي بالاستحمام.. يا إلهي!! معقول ما أرى؟! بعد أكثر من شهرين أخيراً صابون وشامبو؟!! كان الجو باردا والماء كذلك ولا توجد فوطة وارتدينا ملابسنا القذرة ذاتها، لكن ثمة شعور أن هذا الجسد لإنسان، وأني عدت إنساناً من جديد. الأكثر غرابة أنهم أعطونا كأس حليب، وتركونا في الشمس قليلاً لنتدفأ.. ياااااااه.. شمس؟.. شمس؟.. هل لا تزال هناك شمس تسطع في البحرين؟!! لم نكن مصدقين ما نحن فيه. كأننا خارجون من عفن كهف قضينا فيه مائة عام". 

تصوير الاعترافات..

 
لماذا هذا التعامل المفاجئ، ماذا وراءه؟ يكمل غسان "جاءنا أحدهم، وقال لنا: "شوفوا.. انتو شمسوين؟ إنتو أطباء وما سويتو شي أصلاً.. بس قولو غلطنا وجلالة الملك بيعفي عنكم، أكو أهل سترة اللي حرقوا وقتلوا الباكستانية عفى عنهم جلالة الملك.. انتو أولى بالعفو.. لين دخلتوا بس قولوا نفس الاعترافات اللي قلتوها في التحقيق، إذا قلتوا غير ما راح يعفو عنكم"..

يقول غسان: "كدنا نطير من الفرح. اعتبرناها بداية انفراجة. لم نكن نعرف ما الحكاية حتى تم إدخالنا إلى قاعة كبيرة. لأول مرة نسمع أسماء زميلاتنا: جليلة العالي، ندى ضيف، رولا الصفار.. هل كن معتقلات أيضاً؟!! كان من الواضح أنهن معنا في نفس القاعة. سمعنا للمرة الأولى بأسماء زملائنا أحمد عمران وصادق عبدالله. لم نكن نعرف عن اعتقالهم قبل هذا.. أخذونا واحداً وراء الآخر لتسجيل اعترافاتنا أمام كاميرا التلفزيون. أكثر من 12 شخصاً مقنعاً يجلسون أمامنا. لكننا استطعنا تمييز بعضهم جيداً. من كان يصورني حفظت ملامحه جيداً وأستطيع تمييزه جيداً رغم أنه كان مقنعاً لكني لن أنسى كل تفصيلة من تفاصيل وجهه. لقد بقيت لمدة 45 دقيقة مقابلاً وجهه ولن أنساه. المخرج بنفسه كان يأتي لنا ويحاول تهدأتنا كي لا نظهر مرتبكين في التصوير فنفضحهم".

يردف: "أيضاً المعذب مبارك بن حويل كان يروح ويجيء ويهددنا ألا نقول كلاماً غير المطلوب منا. طبعاً علي العكري كان له نصيب الأسد من الاعترافات".

استغرق التصوير أكثر من 12 ساعة حسب غسان، "بقينا تقريباً منذ الحادية عشرة صباحاً حتى الحادية عشرة ليلاً، بعد الانتهاء من التصوير ظننا أنهم سيتركوننا في التحقيقات لنرتاح أو نتناول وجبة بعد هذا اليوم المتعب الطويل، لكنهم أخذونا مباشرة إلى السيارة ومنها إلى سجن الحوض الجاف مرة أخرى، ولا خبر عن العفو الملكي وصلنا، ولا شيء عن الإفراج سمعنا. انتهى الدور المطلوب تمثيله وانتهت مسرحية العفو الملكي".



التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus