الدمستاني مكسور الظهر مرفوع الهامة «1-4»

2012-11-15 - 12:54 م


مرآة البحرين (خاص)
البحرين - ابتسام صالح

صدفة ربما أو باعث من القدر أوعز لنا إلى إجراء هذا اللقاء، مع شخص بتنا نعرف أنه صار وراء القضبان الآن. كنا قررنا في «مرآة البحرين» في بداية شهر رمضان الماضي، القيام بمهمة كتابة سير «الكادر الطبي». كنا نرى أن مأساتهم لا تشبه أي مأساة. ويستحقون لذلك أن يعرف الناس، شيئاً آخر من صميم حياتهم، غير ما عرفوه. وضعنا الأجندة، وقمنا بالمهام. كان إبراهيم الدمستاني أحد هؤلاء. لم نكن نعلم، وربما حتى ولا هو، أن الفسحة الوقتية التي منح إياها خارج السجن، ستنتهي به إلى السجن ثانية. على العموم، فنحن قد التقيناه. أجرينا حوارات مطوّلة معه، إضافة إلى سواه. حين عدنا لتحرير حوار الدمستاني، وجدنا أن في لغته من بلاغة التعبير، معطوفة على تجربة مرّة، ما يمكن معها قول كل شيء. استغنينا عن أسئلتنا، وأبقينا متعة السرد العجيبة التي كانت تتدفق من لسانه كما تتدفق من لسان واحد من أولي الفصاحة والتعبير. في هذه الحلقة نتحدث عن الدمستاني قبل تجربة 14 فبراير حتى الدخول فيها ثم يباشر إبراهيم الدمستاني عرض تفاصيل الأسبوع الأول من الاعتقال. كيف تمّ اعتقاله، وإلى أين تم اقتياده ومن الضباط الذين أشرفوا على تعذيبه... وأين!  لنتركه يتحدث بنفسه:

الدمستاني قبل 14 فبراير

في 18 مارس/آذار 2010 حُبس الدمستاني7 أيام على ذمة التحقيق. القضية: علاج مصاب بطلقات الشوزن في بيته. المنطقة: كرزكان. التهمة: استغلال الوظيفة والتستر على مصاب متهم بتجمهر غير مرخص. لكن منظمة الإسعافات الطبية في أمريكا، كرمت الدمستاني لإنقاذه حياة مصاب كرزكان.

يعمل مشرفاً للتمريض في مركز شركة ألبا الطبي. آخر شهاداته الرخصة الدولية في مجال الإسعافات الطبية الأولية من منظمة الإسعافات الطبية الأمريكية من (Medic First Aid International)، وهو ثاني من يحصل على هذه الرخصة من الخليج، الأولى رولى الصفار.

شغل منصب رئيس نقابة عمال ألبا (2002 – 2005). وهو مدرب مدربين دولي مرخص من قبل منظمة الإسعافات الطبية بالولايات المتحدة الأمريكية منذ نوفمبر/تشرين الثاني لعام 2007. درب آلاف المسعفين منذ العام 1991. لا يزال قبل أن يعاد إلى السجن، يواصل التدريب لتنفيذ مشروع "مسعف لكل بيت" وهو أحد مشاريع جمعية التمريض البحرينية وجمعية الهلال الأحمر البحريني الذي بدأ قبل 14 فبراير/شباط 2011.

مفجر الرأس مقيد اليدين..

في 11 فبراير/شباط 2011 نفذ الدمستاني مع علي العكري دورة تدريبية في الإسعافات الأولية في قرية الديه، "استشفينا من خلال حملات الدعوة للثورة ضرورة التدريب على الإسعاف" يقول الدمستاني. ثم بعد تصاعد وتيرة الأحداث واعتصام المحتجين في دوار اللؤلؤة في 1 فبراير/شباط "ارتأيت مكاني الطبيعي هو الخيمة الطبية وكان معي الأطباء علي العكري وصادق العكري. في البدء لم تكن الخيمة مرتبة، ولم تجهز تجهيزا جيدا وكانت تشرف عليها ندى ضيف".

 
في إحدى الورش التدريبية
يكمل الدمستاني:"يوم الأربعاء 16 فبراير/شباط ليلاً كنت في الخيمة الطبية، قمنا بالمبيت أنا مع أولادي علي وجعفر، في الساعة 2.30 بدأ تحرك سيارات قوات الأمن حول الدوار، وتمركزها في أماكن معينة عند أسواق المنتزه وكذلك على إطلالة الكوبري. الساعة 3.15 فجرا بدأ الطلق والقصف فتراكضت الناس إلى داخل الخيمة الطبية معتقدين أنها مكان آمن. بدأنا نختنق وليس لدينا كمامات. خرج علي العكري بالروب الطبي الأبيض لم يعتدَ عليه، لكن داخل الخيمة اعتدت قوات الأمن على الطاقم الطبي منهم الممرضة زينب، وتحرشوا بالنساء، ثم انطفأت الكهرباء"

انشغل بالي على ولدي (علي) و(جعفر)، حيث كانا في خيمة قريبة من المنتزه، كنت خائفاً عليهما سيما (علي) لأنه يتعذر إيقاظه من النوم بسهولة. عرفت من جعفر أنه هرب جهة البرهامة واختبأ في أحد المنازل، أما علي فاتجه صوب المنامة ليختبأ في منزل شرطي باكستاني. يا لحظه العاثر، لكنه استطاع أن يفلت من يده هاربا إلى محطة النقل العام الواقعة في طرف شارع الشيخ حمد بالنعيم، جلس مع الآسيويين المنتظرين النقل العام متظاهرا أنه واحدا منهم.

بعد عناء شديد أخذت سيارتي متجها إلى مجمع السلمانية الطبي فصادفني رجل مسن عند إشارة القفول الضوئية يريد الذهاب للسلمانية، أخذته في طريقي. في السلمانية ركبنا إحدى سيارات الإسعاف إلى الدوار ثانية. منعتنا قوات الأمن من الاقتراب. كانت الساعة حوالي السابعة. كنا خائفين أن تكون الخيم قد هوت على أطفال أو أو أن يكون هناك مختنقون يحتاجون إلى إنقاذ، عدنا إلى السلمانية.

رأيت بأم عيني الشهيد علي خضير في الطوارىء كان مقيد اليدين وكانت قدمه بجورب وحذاء، والأخرى عارية، ويبدو أنهم لم يمهلوه أن يلبس الفردة الثانية، كبلوه ثم أطلقوا النار عليه، قيل أنه كان يحاول حماية عائلته.
 
يوم قتل ابني (علي)..
 
13 مارس/آذار، اقتحم البلطجية جامعة البحرين، أعلن ذلك في الدوار. ابني (علي) أخذته الحمية فذهب ورفاقه إلى الجامعة. ذهبتُ بعدهم مع الإسعاف. اعتدى البلطجية على الكوادر الطبية، وقوات الأمن حاصرت الجامعة فاضطررنا الذهاب إلى دوار 17 بمدينة حمد، كان الجرحى ممددين على الأرض.

 
الشهيد علي ابراهيم الدمستاني
عدنا إلى البيت أنا وعلي، تناولنا الغذاء، بعدها ذهبتُ لمركز السلمانية الطبي وعلي ذهب ثانية إلى الدوار. الساعة 7 مساء وصلني الخبر بأن علي قد تعرض لحادث سيارة. كان ذلك أثناء خروجه هو ورفاقه من الدوار متجهين لقرى البديع للتصدي للبلطجية الذين راحوا يعتدون على قرى الدراز وبني جمرة.

أثناء خروجه بالسيارة وبالقرب من مجمع الدانة فاجأتهم سيارة قادمة أمامهم، فصدمتهم وتركز الاصطدام على جهة علي. وقع الحادث الساعة الخامسة مساء وبلغني الخبر متأخرا ساعتين. ذهبت إلى مستشفى البحرين الدولي، أمسكت عن نفسي عواطف الأب وأطلقت وظيفتي. كان يشكو من نزيف داخلي وإهمال في العلاج، أنبوب الرئة (Tube) غير مثبت بشكل جيد. كان إنعاش القلب الرئوي غير صحيح فساهمتُ بعمل الإنعاش رغم النزيف الحاد الذي أصابه. لم يعطَ قطرة دم.

أخذناه إلى السلمانية فاستقبلنا علي العكري وأشرف عليه، وضعوا عليه الأجهزة لكن فرصة النجاة قد ضاعت في المستشفى الأول، فخلايا الدماغ أتلفها النزيف ولا يمكن إعادتها للوضع الطبيعي، يمكن أن يتحرك القلب بالمنشطة لكن ذلك لا يكفي، لو أخذ مباشرة إلى مستشفى السلمانية لأنقذت حياته.

الدكتور علي العكري خشى علي من الانهيار. رغم أني تعاملت مع حالة ابني وكأنه حالة مصاب يحتاج إلى إسعاف، تعطلت مشاعر الأبوة أو تأجلت لا أعرف كيف حدث لي ذلك. أخذوا جثة علي إلى المشرحة وأنا تناولت جرعتين من مصل Haloperidol وValium أعطاني إياهما العكري أغرقاني في نوم يحميني من الانهيار.

تجربة السجن

اعتقلت من المركز الطبي بمستشفى شركة "ألبا" حيث أعمل، كنت ذاهبا لنوبتي ظهرا، في الساعة الثانية والنصف من يوم الاثنين 4 أبريل/نيسان 2011. منذ أن أركبت السيارة بوغت بهذا السؤال:" كم راتبك؟" أجبت بصراحة: "يفوق الألف دينار". وصلت التحقيقات وأعيد نفس السؤال. هناك توافق عجيب بين الضباط والشرطة على إلقاء هذا السؤال. وقد تم تكراره أمامي طيلة أسبوع، من السجان إلى الشرطي الباكستاني إلى الضابط. هل هذا معقول؟ جميعهم متفقون على إلقاء السؤال نفسه.

منذ أن أركبوني السيارة، وحتى قبل أن نغادر شركة ألبا، جرى تعصيب عيني، كما كبلت يدي خلف ظهري. لديهم أسلوب حقير من أجل الإمعان في الإذلال، تسمع أحدا يوصي بالرأفة بك: "لا أحد يضربه أو يصفعه"؟ لكنني سرعات ما تباغتني رفسة من أحدهم. شعرت أنني واقف في ممر لغاية الساعة الرابعة والربع. أدخلت على الضابط مبارك بن حويل لأنه المسئول عن ملف الكادر الطبي فواجهني بالتهديد المباشر: "يا الدمستاني خلص نفسك واعترف أحسن لك، خلص نفسك مثل عبد الخالق العريبي".

تأتي دائما الأسماء عارية من لقب الدكتور! ربما أخصائي أمراض الروماتيزم  الدكتور العريبي لم يعترف بشيء أصلا لكنه يوهمني أنه فعل كي تصيبني عدوى الانهزام. قبل أن أرد وزنت كلامي وركزت انتقاداتي على وزير الصحة، التي لا يريدونها على أية حال، مرّرت بين الكلام إشارات إدانة، قلت: "لدينا خلافات قديمة بين وزير الصحة وجمعية التمريض البحرينية منذ أيام مطلب الجمعية بتطوير الكادر التمريضي. وصلت الخلافات إلى المحكمة". ثم عرجت على القضية الأم: " صارت اعتداءات على الطواقم الطبية ووزير الصحة لم يأخذ قرارا، ولم يحرك ساكنا لا في المسئولية القانونية ولا حتى في المسئولية الأدبية، كما أن سيارات الإسعاف تم منعها من قبل وزارة الداخلية". 

انزعج بن حويل وصرخ: "روح عدل كلامك". حين أرجعوني إليه مرة ثانية، قلت : "خرجنا في مسيرة ضد وزير الصحة بسبب منع الإسعافات". قال: "ما زلت تكابر بعد ثلاثة أيام، غصبا عنك ستعترف".    

أخذت إلى غرفة التعذيب. شعرت أنني أقف في مكان أشبه بمخزن أخشاب أو شيء من ذلك، فيما انهار السُباب والنعت التحقيري علي: "خونة، روافض، متآمرون، أذناب إيران، مجوس، أولاد المتعة". كان معي  استشاري جراحة العظام الدكتور علي العكري الذي سمعت صراخه من الألم، كذلك أخصائي جراحة العظام الدكتور محمود أصغر، والشهيد علي صقر. هناك لم يفعلوا بي شيئا لكنهم أسمَعوني صراخ المعذَبين. ثم جاءت نورة آل خليفة أيضا وتلفظت علينا بكلام بذيء. ظللنا واقفين، جاءني شرطي يمني زيدي طيب القلب، متفهم لما يجري لنا سألني: "أكنتَ في المستشفى؟ الله يسهل عليكم". أتى بكرسي وأجلسني عليه".

هناك جميع الجلادين بحرينيون، جاءهم بن حويل وأمرهم أن يلصقوا أوراقا على ظهورنا مكتوبا عليها إهانات وتشبيهات بالحيوانات، مثل : "الدكتور الفلاني حمار وغيرها".

هكذا انتزعت اعترافاتنا

كانت الغاية من التعذيب تركيعنا وجعلنا نعترف أن لدينا أسلحة، أو القول إن الدكتور الفلاني كبّر الجرح، أو أن  اختصاصي جراحة العيون والشبكية الدكتور سعيد السماهيجي قام بقلع عين جريح، أو أننا أخذنا مصابين باكستانيين كرهائن، وما إلى ذلك من ترهات وخزعبلات.

كان يتم إبقاؤنا في حالة وقوف متواصل، فرصتنا الوحيدة في الجلوس هي وقت الوجبة، حيث ترفع العصابة قليلا لغاية الصحن الذي نأكل منه، وليس مسموحا لنا أداء الصلاة. كنا نحتاج الحمام بشدة ونحصل عليه بمذلة. كنت في مكان التعذيب مع أربعة أطباء، شعرت أن المكان أشبه بغرفة صغيرة فيما كان التعذيب ينهال علينا بالدور، أنا مع الدكتور محمود أصغر، الدكتور علي العكري، والشهيد علي صقر مع آخرين صاروا معنا لاحقا في سجن الحوض الجاف.

استمر حالنا ثلاثة أيام ثم نقلنا إلى مكان أكبر أشبه بالصالة، كنا خليطا مهاناً من المعذَبين، معنا استشاري أطفال حديثي الولادة والخدج الدكتور نادر ديواني، ورئيس مكتب المراجعة الطبية للمراكز الصحية الدكتور أحمد العمران وسائق الإسعاف أمير الهملي، إضافة إلى جماعة "العرين" الذين اتهموا بالذهاب إلى جامعة البحرين في 13 مارس/آذار، فاعتقلوا من محمية "العرين" مقر عملهم.

عادة ما يبدأ التنكيل من الساعة 6 صباحا إلى الساعة 6 مساءاً، لكن أقسى التعذيب يبدأ حين يدخل منتصف الليل، وتبدأ السهرة علينا. كانت متعتهم تتوفز في الليل، غايتهم أن يخمدوا فينا نار الصمود الوقادة، ويتركونا أجسادا منكسرة خائرة ومفرغة من مشاعر العزة والكرامة، هذا هدفهم. يمارسون حقدا كان مضمرا في قمقم، ثم وجد الفرصة السانحة كي ينهض في وجوهنا كوحش كاسر ناشرا شره وبشاعته. حين يسألونك: "كم راتبك؟" كي يقارنوا بينك وبينهم، بين من يدعون أنهم حماة الوطن والملك الذين يتقاضون رواتب شحيحة، وبين أعداء النظام المترفين برواتب لا يستحقونها، لأنهم ينظرون إليها كأعطيات ومكرمات، لا جزاء عمل وخبره وعلم وسهر مكلل بشهادات أكاديمية عليا.

لقد أراد النظام بذلك أن يكرس لديهم الفرق في الرواتب لا المرتبات، ليتحول ذلك الفرق إلى حقد يغلي في صدورهم ومن ثم يجرعونا إياه، كي لا تأخذهم بنا رحمة أو طرفة ندم.

يتلذذون بإهاناتنا الشخصية، بإهانات طائفية مهينة في حق الأئمة من آل البيت. كأن يقول لك أحدهم "خل المهدي يخلصكم ألحين". إلى ما إلى غير ذلك من استهزاء مستميت بالكادر ومنزلته. كانوا يريدون سحق مكانة الكادر الطبي وفق عقليتهم المريضة، معتقدين أنهم بالطريقة المهينة قادرين على هدم المنزلة والمنازل، منازل العلم وصروح الطب التي رفعها هؤلاء الأطباء الأذكياء الأكفاء. لذلك يكرهوننا على عمل تهريجات مخجلة، بتقليد أصوات الحيوانات، تأدية رقصات خليعة، إجبارنا على شتم الشيخ عيسى قاسم، الأستاذ حسن مشيمع، والشيخ علي سلمان، أو أي شخصية دينية أو سياسية محل تقديس أو توقير.

وأهون الإذلال هو طلب ترديد النشيد الملكي، لكن أغلبنا لا يحفظه، ومن يحفظه وينشده يحصل على مكافأة جلوس 5 أو 10 دقائق تنتهي بزجرة : "قوم".  تلك محنة وقعنا فيها، كيف لنا الانعتاق منها!

لم تقو رجلي فسقطت على الأرض

أشرقت شمس اليوم السابع وما زلنا وقوفا بدون استحمام، بدون نوم، بدون اتصال بالمحامي. طلبونا إلى التحقيق مرة ثانية، من أجل زيادة جرعات التعذيب والترهيب. يأتي الضرب بقبضات اليد على الظهر ويتواصل بالصعق الكهربائي على الأذنين، ضرب الركب والأرجل بالكابلات، يختارون أماكن حساسة وموجعة، حتى يسيل دمي على جلد مزرق ومنتفخ، فلا أستطيع أن أطأ على الأرض لتأثر العصب الذي يغذي الرجل. ضربت على عظمة العجز coccyx bone، فانكسرت وانفصلت لكثرة الرفسات والركلات المركزة عليها. كنت في ردة فعل الألم أجمع جدعي ويديّ للأمام فيبرز ظهري فيمعنوا في إصابة المكان.

لم أحتمل شدة الألم، لم تقوَ رجلي أن تحملاني فسقطت أرضا. طلبت الذهاب إلى المستشفى فلم يكترثوا، لأن ذلك يعتبرونه تظاهرا بالألم وهروبا من التعذيب، فتظاهرت بشيء آخر، بضيق التنفس، افتعلت حركات اختناق فأخذت لمستشفى القلعة. في الطريق صافح جسدي سطوع الشمس وحرير دفئها اللذيذ، أتزود منها وأستنجدها أن تأخذني تحت كنف ضوئها على الدوام.
في عيادة القلعة، كان هناك شخص بحريني أقل ما يمكن وصفه به، هو اللؤم، حتى أنه يلقب بــ "شارون" لبشاعة خُلُقه. رافقني من التحقيقات إلى مستشفى القلعة، لم يسمح لي بالاستلقاء على ظهري، يتدخل حتى في مهام الأطباء، أخذوا لي أشعة لكن لم يشخص الطبيب حالتي ولم يعطني أدوية أو أي شيء. لكن أشفق علي شخص "سلفي" كان مرافقا لشارون، أتاني بأقراص Voltaren المسكنة من بيته.

«بن حويل»... سيد الإرهاب

 
الضابط مبارك بن حويل
كنا معصوبي الأعين، يقودونا كالعميان بإرشادات معنفة: "امش .. أمامك عتبة". أو يجرونا جراً قائلين "اركض" ولكن لياقتي الجسدية تخونني فلا أقوى على الركض.  أخذت لمكتب الضابط بن حويل. عرفته من خلال التبجيل والتوقير الذي لا يوصف، من طغيانه الطافح، وتعرفت على شكله لاحقا في محكمة السلامة الوطنية عندما جاء بصفة شاهد إثبات علينا.  إنه سيد الإرهاب والقابض على كل الفظاعات والانتهاكات، صاحب اليد الطولى في الإجرام، يد من حديد يطلقها على رقاب العباد. ونحن تحت عتمة العصابة حيث البصر معطل، والبصيرة تائهة، والحواس مرتبك، والإحساس مهان فما الذي بقي من الكرامة تحت أيدي بشر منزوعي الإنسانية والضمير؟ كأنهم جبلوا على هذه الأخلاق، كأن هذا النوع من الخلق أقنعة يلبسونها لهذه المهام الآنية؟ يمرروننا على طابور من الجلادين لنأخذ نصيبنا، بين ضارب وصافع وشاتم.

كنا نحرك أصابع اليدين لأن الرسغين يئنان تحت رزح القيد، فكلما حركنا الأصابع بطريقة قبضها وفتحها فذلك يزيد من حركة الدورة الدموية ويخف الألم قليلا. كما كنا نستعين بالأدعية. الدعاء يشعرنا بقوة الله وبعدالته. تشعر كأن أحدا يمسح على قلبك الموجوح فيمنحك ذلك الصبر.

بعد هذا الإرهاق المتواصل تضطر إلى أن تستسلم فكاكا من هذا الهلاك، فتقول الذي يجبرونك عليه. حسبتُ الأمر في الأخير "أنا ليش أعور راسي" فيلسمعوا ما يريدونه، في النهاية لن يستفيدوا منه قانونيا بسبب غياب المحامي، فهناك محكمة وكل ما قلته قابلا للإنكار طالما خرج تحت لهيب سياطهم.

مهمته إسماعنا صراخ المعذبين

بعد جولة التعذيب بصحبة بن حويل تم أخذنا إلى محقق آخر لم نستطع التعرف على اسمه. مهمته أن يسمِّعنا صراخ الكادر الطبي تحت التعذيب. أسمع صراخ رئيسة برنامج تمريض الطواريء رولا الصفار الصامدة. أقاطعه: "كيف يكون صمودها في هذه الحال؟"، فيقول: "كانت تتلوى من الضرب لكنها لا تعطي إجابات،  تنكرها بالقول: لا أدري .. لم أسمع بذلك .. إلخ".  بعد كل جرعة تعذيب تتم إعادتنا إلى بن حويل لاختبار مدى صبرنا وصمودنا. 

جلست معه ثلاث أو أربع مرات، وكان يقف على رأسي شخص من أشد المعذبين، جلافة،  مهمته أن يباغتني بضربة ثقيلة على الرقبة عقابا على إجابة لم تعجبه، ثم يمضي مهدداً :"بجيك ضربة ثانية إذا حاولت الكذب مرة ثانية". يتواصل الضرب كلما جاءت الإجابات غير التي ينتظرون. فاضطررت إلى القول:"رأيت أسلحة في سيارات الإسعاف عرضها تلفزيون البحرين، وتلفزيون البحرين لا يكذب!". وأيضا في قسم الطواريء، قلت "تم وضع جهاز لاسلكي موصل بالسفارة الإيرانية، ورأيت رولى الصفار تسكب أكياس الدم على الجرحى، كل ذلك بقصد إثارة الرأي العام من أجل إسقاط النظام". 

هذه الاعترافات الباطلة وغيرها السابقة أثناء التعذيب التي أرغمت عليها جاءت في 40 ورقة طلبوا مني توقيعها.

في اليوم الثامن من الاعتقال وضعوا تحت يدي الاعترافات والإفادات ورفعوا العصابة قليلا بحيث تسمح لي برؤية مكان التوقيع فقط من أجل إرسالها إلى النيابة العسكرية. وبالمناسبة إن مكاتب النيابة العسكرية والتحقيقات الجنائية قريبة من بعضها البعض. لاحقا بعد أن استقرينا في السجن أيضا أخذونا للتحقيقات أربع مرات للتوقيع على اعترافاتنا المعدلة، في كل مرة يعدلونها بحيث تتطابق فيما بيننا، وكيفما رُسمت لنا، فلا نتردد في التوقيع طالما التحقيق في الأساس باطل.

في النيابة العسكرية كنت أسمع صراخ الدكتورة رولى الصفار والدكتور محمود أصغر والدكتور علي العكري. وكان المحققون يقولون لي "سامعهم؟ تبي مثلهم؟". لا أعرف هل صراخهم الذي يفطر القلب يعزي نفسي المبتلاة مثلهم، أم أنه يزيد من لوعتي عليّ وعليهم! في هذا الوقت وبعد أمضني الإرهاق والإنهاك ليس ثمة مجال للتفكير الصحيح أو تدارك الأمر كأن تغير إفادتك. تأتيك فرصة صغيرة لالتقاط الأنفاس حين يتم السماح لك بالجلوس. سألني أحدهم: "هل تريد ماءً أو سيجارة؟"، وفعلا يتم إحضار الماء لك، وحتى السيجارة في حال كنت مدخنا من أجل أن تعيد الاعتراف نفسه. وليس ذلك إلا خدعة توحي بنهاية العذاب. ذلك أن الجلادين مازالوا ينتظرونا في قاعة التعذيب.




التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus