سعيد سيف المصور الذي عشق جزيرة الثورة: لقد غيرتني (سترة) للأبد

2012-05-05 - 7:10 ص


مرآة البحرين (خاص): سعيد سيف، الاسم الذي اختبأ خلفه الكثير من المناضلين على اختلاف عطائهم النضالي والثوري عبر عقود من الزمن، بدءاً بعبدالرحمن النعيمي الذي كان مجبراً على الاختباء خلف اسم مستعار لاستهداف النظام له. يختبئ اليوم عدد من الشباب في حسابات تويتر والفيس بوك بذات الاسم، مفضلين أن يكونوا قادرين على العطاء عوضاً عن الظهور.

وسط زوبعة الخلاف الطائفي التي تعصف بالبلد، يظهر لنا المصور سعيد سيف وهو الاسم المستعار الذي اختاره لنفسه لعجزه عن نشر صوره باسمه تماماً كما كان عبدالرحمن النعيمي عاجزاً في مرحلةٍ ما عن نشر مقالاته باسمه، سعيد سيف، الشاب العشريني، القادم من عائلة سنية محافظة، وجد نفسه منذ فبراير 2011 وسط تفاصيل الثورة، وبين أزقة سترة، في صرخات الثائرين، ودموع الفاقدين، عشق سترة، وتعلق بها، بأهلها وطرقاتها، سحرته بساطتها، كرمها، صمودها، وجنون العسكر في حضرتها، (مرآة البحرين) التقته، اقتربت لتعرف أكثر عن أولئك الذين لم يسقطوا في شباك الطائفية رغم وهجها المضيء آنذاك.

يقول: "كنت عصر الرابع عشر من فبراير، مع عدد من أصدقائي في أحد المطاعم، نتبادل أطراف الحديث حول ثورة بحرينية مزمعة، ضحكنا واعتقدنا حينها أن الأمر لا يعدو حماساً تأثر به بعض الشباب أسوةً بتونس ومصر فقرروا الدعوة لثورة بحرينية، لكن المساء حمل خبر استشهاد الشاب علي مشيمع، تواردت الأنباء بعدها عن الدعوة لمسيرات في كل المناطق، وكانت الأخبار تردنا عبر تويتر، لكوني في منطقة بعيدة عن الأحداث.

في اليوم التالي قررنا الانطلاق صباحاً للتشييع والمشاركة في المسيرة التي ستسبقه، تركت أصدقائي يومها وتقدمت للمقبرة، لم أكن مستعداً لتفويت تغسيل الشهيد، هناك التقيت المدون محمود اليوسف، والمحامي عبدالله هاشم، ولفتني رجل مسن، يبكي بحرقة، ويردد كلمات لها ذات اللحن، الغريب أني ما زلت أذكرها "الثوب مشقوق، والرأس مكشوف، حامل شهادة، يدور وظيفة، لو هي كسيفة" تلك الكلمات بقيت عالقة حتى اليوم، وجدتها حينها تحكي عن حال معظم البحرينيين، الذين خرجوا مطالبين بالعدالة الاجتماعية".

سعيد سيف، الشاهد الخارج من الطائفة، الى عمق الوطن، لم يكن مجرد مشارك في الحدث، بل شاهد حي على مطلب الإصلاح الذي رفعته الجموع قبل أن تفقد الأمل به ليكون مطلبها الإسقاط، بنظرة يملؤها الأسى على تغيير وجه التاريخ فيما حدث. أكمل شهادته: "كل المطالب في البداية كانت تدعو لاصلاح النظام، وقد وثقت ذلك بعدستي، كان الناس حينها ما زالوا يحملون الامل".

في إحدى جوانب الشارع التقط بعدسته وقبلها قلبه كل ما ظنّ أنه يؤرخ لتاريخ سيتم تشويهه في يومٍ قريب، أراد أن يحتفظ بالتاريخ كما هو، أن يشارك في الحفاظ على تاريخ إنسان هذا البلد، لتعرف أجيالنا القادمة حكاية الرصاص وهو يهدم صرح الإنسان في بلد يغوص في الدمار وألوان الفساد، في إحدى الزوايا وقف رجل بين الجموع الهائلة التي حضرت التشييع، أثارني منظره، كان يحمل بيده لافتة بيضاء، كُتب عليها (أطلقوا الحريات) ولم أكن أعرف حينها أنه جواد برويز أحد الرموز الذين اعتقلوا لاحقاً بسبب المطالبة بالديمقراطية.

كنت أقف بانتظار وصول الجنازة، أعترف أني ذهلت للعدد المشارك، وكنت حينها أفكر كيف ستحوي عدستي كل هؤلاء بصورة واحدة!!

توافد الناس نحو المقبرة، بعضهم تسلق الإشارة ليصور الجموع بهاتفه، لفت نظري منظر اهتممت بتوثيقه، كان عبارة عن لافتة بيضاء، علقت بلا عناية على إشارة مرور، كتب عليها "بعد التشييع الى دوار اللؤلؤة".

كما أعتقدت أن الثورة لن تكون، توقعت أيضاً أن الجموع لن تتوجه للدوار، عدت يومها للمنزل، حملت الصور لجهازي، ونمت بعدها، لأصحو على وقع الثورة. قبل المغرب وردني اتصال، من قريب لي، يسألني عن مكاني، فقلت نائم بالمنزل فصرخ بي "قوم تعال الدوار الناس هناك".

وصلت الدوار رغم أن الازدحام كان شديداً في كل الشوارع، رأيت الشباب مجموعات، بعضهم يغني أغاني وطنية عن الشهداء، ومن المنصة الصغيرة ألقيت بضع كلمات، سمعت إبراهيم شريف أمين عام جمعية وعد يقول: "نحن سنكون موجهين لكم فقط، وأكمل مازحاً خلاص احنه تعبنا يا جماعة" ثم صعد المنصة وألقى كلمة، أخذنا الوقت يومها، وكاد الليل أن ينتهي، وكنت أخير نفسي بين العودة للمنزل أم البقاء بالدوار. مر اليوم الثاني كسابقه، لكن فجر السابع عشر من فبراير، حمل معه محادثة غريبة، عند الفجر رن هاتفي، كان المتصل صديق، لم أفهم ما يقول، فقط أنفاسه التي كنت أعرفها، طلبت منه التقاط أنفاسه، ومعاودة الاتصال، لم أعرف حينها ما كان يحدث في تلك البقعة من وطني، لم أستطع النوم بعدها، فدخلت لتصفح الفيس بوك، عرفت عندها أن القوات قد ضربت الدوار، على عجالة أخذت سيارتي وتوجهت لهناك، لم يكن الوصول صعباً يومها، بل مستحيلا.

كيف تورطت بالامر..

لم يكن تصوير المسيرات حدثاً جديداً على المصور سعيد سيف، فلطالما رافقت عدسته مسيرات دعم فلسطين، واليوم العمالي، وغيرها، ولم يكن لديه اهتمام كبير بتغطيتها، يقول: "كان حدث 14 فبراير استثنائياً، المشهد عفوي وملهم، الصورة تتكلم حين التقطها، فكان التصوير حينها فناً وليس فقط توثيقاً من أجل التاريخ، التاريخ الذي ستقرأه أجيالنا القادمة كما أقرأ أنا اليوم التاريخ عبر صور هيئة الاتحاد الوطني 54، وانتفاضة مارس 65، قبل أن أسال ماذا كان يقول الشملان، أتساءل من التقط الصورة حينها، لقد ترك مصورها إرثاً للتاريخ، وللأجيال القادمة جميعا".

في اليوم الذي اعتصم فيه عمال ألبا في الدوار كنت قد قررت أخذ راحة وعدم التوجه لهناك، لكني فتحت شباك نافذتي ووجدت الغيوم، قلت في نفسي هذا أفضل وقت من أجل صورة رائعة، رأيت يومها فرحة الناس والهتافات بعد عودتهم للدوار، أدرك اليوم أن العودة للدوار ليس مطلباً أساسياً في الحراك وشخصياً لا تهمني العودة له، لكني لا ألوم الناس لإصرارهم على العودة، الآن وأنا أتصفح وجوههم التي سكنت صوري، فرحتهم بالتواجد هناك، أدرك حينها أن ذاك المكان كان البقعة الوحيدة التي تنفسوا فيها الحرية، وقد اشتاقوا لذاك الهواء.


أنتمي اليوم لسترة

لم أكن قد استنشقت مسيلات الدموع في حياتي، أحببت أن أجرب طارقاً باب الفضول لا أكثر، لم أعرف يومها أني أتورط بأمر أكبر من المسيل وأعظم من المسيرة، تورطت بثورة وطن، وأدركت معنى أن يصل الشعب لمطلب إسقاط النظام، لأني عرفت وجع الشعوب من ديكتاتورية الأنظمة المستبدة. قصدت سترة، في يوم تشييع الشهيد السيد هاشم، لم يمضِ وقت طويل قبل أن تداهم قوات الشغب التشييع وتطلق المسيلات والقنابل الصوتية باتجاه المشيعين، كنت حينها أخير نفسي، بين المضي مع الجموع للأمام، أو التراجع والعودة للمنزل، ووجدتني دون اختيار أمضي معهم، ألتقط بعدستي الكثير، وثقت القمع من أجل التاريخ، ولأنها المرة الأولى التي أستنشق بها مسيل الدموع فلم أصمد طويلاً، وكدت أن أهوي لولا أن وجدت يداً تمتد لتسندني. كان أحد شباب سترة، لا أعرفه، لكنه أمسك بيدي، أنقذني من السقوط، وأخذني لمنزلٍ قريب، كنت خائفاً في البداية، لأنني (سني)، ولخشيتي من أن يظنوا بأني مخبر، لكني لم أجد منهم إلا كل ترحيب، كل حب، ورعاية، ما لبث أن دخل وقت الغروب، فصلينا المغرب جميعاً، وشربنا الشاي، حين تم تأمين الشوارع أخبرونا أن بإمكاننا الخروج.

 ما لم التقطه بعدستي التقطته بعيني، وربما قلبي، كنت أجري بذعر، لا أعرف ما يكون مصيري بعد برهة، لكني تعثرت بطيبة أهل سترة، تلك الطيبة التي كسرتني، لم أعتقد يوماً أني قد أمر بكل ذلك، لكنه حدث، وتورطت وربما سأبقى كذلك للأبد مع اهل سترة، أصبحوا جزءا من بحرينيتي الأصيلة، جزءا من هذا الطيب الذي جبل عليه هذا الشعب، أصبحت منهم لا أكثر، أسرتني بساطتهم، كرمهم، عفويتهم، طيبهم واخلاقهم، واحببتهم، لم اشعر يوماً أني انتمي لمكان، بالقدر الذي أشعر بانتمائي اليوم لسترة وأهلها، بعد ما حدث لا أستطيع أن أترك يوماً يمر دون أن أعرج على ديار سترة، وأهلها الرائعين.

ندمي الأول

كانت تلك تجربتي الأولى في تصوير المواجهات، سمحت يومها لخوفي وارتباكي أن يمنعاني من تصوير اللحظات الحاسمة، نادمٌ على ذلك حتى اليوم، لذا طلبت من صديقي الستراوي أن يرتب لي موعدا مع والد الشهيد أحمد فرحان، وتم ذاك اللقاء، الذي أصبح فيما بعد بداية لعلاقة صداقة رائعة جمعتني بأهله، بكل طيبهم وجمال قلوبهم.

حين التقيت بوالد الشهيد، وعرف أني سني، لم تكن الأرض تتسع لفرحه، تبادلنا الحديث عن أمورٍ شتى، وسألته عن الشهيد طويلاً، وأنا ألف بنظري في ذاك المكان الذي جمعنا، كان يستعصي علي أن أسميه منزلاً، أزورهم ولا يستطيع أن يقول لي "تفضل، استريح" هذا الشاب الذي يعيش ببيتٍ كهذا، كيف له ألا يثور؟ كم يستطيع أن يلبث قبل أن ينتفض مطالباً بالعدالة، يسكن الفخاخ بينما غيره يسكن القصور، ثم يتهم بتنفيذ أجندات خارجية!!

قبل أن أمضي، طلب مني والد الشهيد أن أكرر الزيارة، أخذ رقم هاتفي، وتفاجأت به بعد مدة يتصل ليسأل عني، وأصبحت دائم التردد على منزلهم منذ ذلك الوقت، بسبب ومن دون سبب.

سأنزل للشارع

 
بعد مدة قررت أن أنزل الشارع، أشارك الشباب في المسيرات غير المرخصة، كنت قد رتبت أموري للتعرض للمسيل، وحين بدأ القمع كان التراجع آخر ما أفكر به، وكانت تلك الصور هي أجمل ما التقطت.

في سترة دون غيرها، مجتمعٌ بأسره مسخرٌ من أجل ثورة، من فوق أسطح المنازل نساءٌ يراقبن المشهد، يوجهن الشباب المشاركين في التظاهرات، رفعت رأسي، أشارت لي امراة بأن أدخل بيتاً معيناً، عرفت حينها أن النساء في سترة يقمن بأكثر من المشاركة، بعضهن يقمن بجولات بالسيارة لإرشاد الشباب بأماكن تواجد القوات وحركتها، كل ما في سترة مهيأ ومسخر من أجل الثورة.


بعد عامٍ كامل، أعرف أن سترة لن تُمحى من داخلي، لقد تركت فيّ أثراً، لا تمحوه السنون وتراكم التجارب، غيرت سترة من قناعاتي، جعلتني أرى الأمور من زاويتها، من سترة، وأهلها المحاصرين بهمجية العسكر، وضجيج الأحقاد الطائفية، جعلتني سترة رغم نبذي للعنف والملتوف أن أبرر استخدام شاب ستراوي لهذا الأسلوب، أعرف الآن كيف يكون شعوره حين تنتهك حرمة بيته، يقتل أخوانه، يستهدف، تسرق أمواله، تستباح كل تفاصيله، أعرف اليوم أني لا أملك إلا أن أعذره، فهو لا يملك إلا خيارين، إما الدفاع عن نفسه، أو الموت استسلاماً.

في مواجهة البندقية... لكن بأمان

في إحدى المواجهات تم محاصرتنا من عدة جهات، فتراجع عدد كبير من المشاركين، وبقينا في المقدمة، أنا وعدد لا يتجاوز خمسة أشخاص، وكان العساكر في مواجهتنا بأسلحتهم المختلفة، تقدم نحوهم شابٌ يحمل زجاجة ملتوف، فالتقطت له عدة صور، وكان خلفي شخص يجرني للخلف ويقول (لازم تتراجع خوك) وعلى مقربة مني شابٌ آخر، أشار لي وهو يقول (المصور شباب لا يصيده شي)، رغم كوني في مواجهة السلاح، وعلى مقربة منه، لكنني كنت معهم أشعر بالإمان، اهتمامهم بسلامتي جعلني أنسى خطورة انفلات العسكر.

للشعب الكلمة

بعد عامٍ من الثورة، تغير في الكثير، توقفت عن تتبع الأخبار والصحف المحلية، واستعضت عنها بالتواجد في قلب الحدث، ربما أقبل  أن يكذبني أحد، لكني لن أسمح له ابداً أن يكذب عدستي، بعد عامٍ من الثورة أعترف أني أصبحت أتعاطف مع مسيرات الإسقاط غير المرخصة، رغم أن مطالبي هي ما يتواجد بوثيقة المنامة، لكن جزءا مني يتعاطف مع ما يعانيه الشباب، وأدرك أن أي مطالب ستتحقق ستكون بسبب تضحيات هذا الشعب الذي يعاني، لن يكون للجمعيات السياسية فرصة الموقف إلا عبر تضحيات الشعب الذي يدفع ثمن حريتنا، بدمه وحريته، كنت أعتقد دائماً أن ما حدث من بشاعات لا يمكن أن يحدث هنا، ربما يحدث في فلسطين، لكن ليس في البحرين، كم كنت مخطئاً ومشوشاً لأظن أن أنظمتنا الديكتاتورية لا تشبه صديقتها إسرائيل ولا تتعلم منها.

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus