البلاد القديم: خليل الحايكي... حياة جديرة بالاحتفاء

خليل الحايكي
خليل الحايكي

2017-09-06 - 10:17 م

مرآة البحرين (خاص): مات يوم الثلاثاء الخامس من شهر سبتمبر 2017، رجل اسمه خليل إبراهيم عيسى الحايكي، كثيرون ربما لا يعرفون من هو خليل الحايكي (أبا عليّ)، ولهم العذر في ذلك، فهو لم يعمل يوماً لكي يعرفه أحد.

خليل الحايكي، مات بعد حياة جديرة بالاحتفاء والتوثيق، مناضل بحريني وطني نقي، متدين وخلوق وصاحب مبدأ وعطاء بلا حدّ. قد يعيش جيل كامل لا يظهر فيه مثل الحاج خليل؛ قلب مقطوف من قلب الله ورحمته وعطائه، وروح تعطي من عمرها للآخرين بكل سعادة، كان لؤلؤة جيله وأجيال تلت، لا تسعدنا الحياة بكثير من مثله.

في العام 1984، قضى خليل ليلة زفافه -كما حكى لمقرّبين- في قلق كبير. فبعد أن انتهت حفلة زفافه، ظل صامتاً واجماً، لم يكن كأي عريس مأخوذ بأسعد ليلة في عمره، لم تعرف عروسه (ابنة خالته) ما الذي دهاه وأخذه عن ليلته وفرحته. لقد قضاها يترقّب شيئاً لم يعرفه أحد حينها..

منذ بداية الثمانينات، كانت الاعتقالات قد طالت عدداً من النشطاء الذين مارسوا النشاط التوعوي والسياسي الهادئ، تم جمعهم في قضية تحت مسمى حزب الدعوة. اعتقل أحد أصدقائه المقربين الذين يشتركون معه في نشاطه. بلغ الحايكي خبر اعتقاله قبل زفافه بقليل، وتوقّع أن يأتي دوره ويتم اعتقاله في ليلة زواجه، وأن زوجته لن تعد تراه لسنوات طويلة.  لكن مرّت تلك الليلة بسلام، وأُمهل أن يعيش حراً حتى وقت معلوم.

بعد 12 عاماً حل الوقت المعلوم، وتحديداً في أبريل 1996 إبّان انتفاضة التسعينات، اعتقلت قوات تابعة لجهاز الأمن الوطني خليل الحايكي من منزله في البلاد القديم، وتم اقتياده لجهاز التعذيب. بعد نحو ثلاثة أسابيع، أعلنت وزارة الداخلية أنها اعتقلت أكثر من 30 شخصاً اتهمتهم بتشكيل تنظيم اسمته جماعة «حزب الله البحرين»، كان بينهم الحايكي الذي اتُّهم بلعب دور قياديّ.

حقق مع خليل الحايكي كل من: عادل فليفل، عيسى النعيمي، عدنان الظاعن، باقر الوداعي، صلاح الياسي، عبدالله الكعبي، حسن العماني، شبير.  وكان بين المعذّبين حيدر المبشّر، واثنين من عائلة السمّاك قاما بتعذيب ابن عمهما المعتقل في نفس القضية بيديهما أمام الضباط إثباتا لولائهما للجهاز والنظام.

حكم على الحايكي بالسجن لمدة سبع سنوات، قضى منها خمساً قبل أن يصدر العفو العام في يناير 2001. بعد خروجه أسرّ للقريبين منه أن "لميثاق ليس أكثر من "فخ". فقد  كان يرى أن العائلة الحاكمة لن تلبث أن تعدّ لضربة قاصمة للقوى والتيارات السياسية المعارضة، وأنه لا مصداقية لأي عملية سياسية تنظمها، لأنها تعمل وفق نظام العصابات لا الدول. مضى على قوله ذاك  15 عامآً،  وها نحن نعيش اليوم ما يؤكد رؤيته تلك، بعد أن كان الجميع حينها يتأمل عهد جديد ويستبشر بمرحلة جديدة، فإذا بنا نعيش في أسوأ عهد سياسي.

عن ذكريات السجن يؤكد عشرات المعتقلين، أن الحايكي كان أستاذاً أفاد الكثيرين، وأن وجوده مثّل بالنسبة لهم قدوة ملهمة. مناجاة التائبين هي الأقرب لقلبه: إلهي ألبستني الخطايا ثوب مذلّتي.

أصيب الحايكي في العام 2007  بأزمة صحية أقعدته عن الحركة، ربما كان للتعذيب الذي تعرّض له دور في ذلك، ورغم إعاقته، لم يفلت من ملاحقة جهاز الأمن الوطني وتعذيبهم. في إحدى المرات وعند مداهمة منزله، كان الحايكي طريح الفراش، لكن ذلك لم يمنعهم من ضربه قبل أن يقوموا بقذفه بعلب معدنية مملوءة بالعصير، وهو لا يستطيع حماية جسده الممدد. وظل جهاز الأمن يلاحق ابنه صادق في كل مكان. وفي أواخر العام 2015، بعد اعتقال عدد من شباب البلاد القديم، سُئل عنه بالاسم خلال التحقيق إن كان على ارتباط بالقضية حينها، وتم الاتصال به على هاتفه مباشرة  وتهديده من قبل جهاز الأمن الوطني، أجابهم بهدوء: أنا مريض جالس في منزلي لا أستطيع الحركة!

في الجانب الخيري، كان الحايكي الذي عمل مهندساً في وزارة الكهرباء، نهراً من عطاء، وهو أحد أهم مؤسسي الصندوق الخيري للبلاد القديم والزنج وعذاري. يذكر أصدقاؤه في بداية التسعينات أن الحايكي كان يتأبط ملفاً يحمله معه بعد عودته من بعض الاجتماعات، الملف يخص تأسيس الصندوق الخيري الذي صار نهر عطاء وحياة لكثير من فقراء هذه المناطق. لا يتحدث أحد عن مسجد إلا وكانت له مساهمة في بنائه من "خريطة البناء" وحتى تركيب آخر حجر. ولا عن حسينية إلا وكانت له يد مساعدة ورأي صائب، يراه الجميع في عمل الخير. ابتعد كلياً عن نظام الوجاهة الذي ابتُلي به المجتمع، لم يشأ أن يكون وجيهاً رغم استطاعته التامة، اختار أن يكون "خليل" فقط؛ خليل الذي يساعد الفقراء، ولا يريد أي شيء في حساب فوائده الشخصية.

بعد خروجه من السجن في 2001، أسس مشروعًا لدعم التعليم الجامعي، استفاد منه أبناء عوائل فقيرة في البلاد القديم، وهم اليوم جامعيين ناجحين في حياتهم، آخرون يرونه الأب الروحي لعشرات الشباب.

عشرات الحكايا يمكن أن تحكى عن تغيير جذري أحدثه الحايكي في حياة أفراد أو عوائل، هي حكايا لا تنتهي أو تختصر. أفراد تحولوا من الانحراف التام والضياع، إلى حياة مستقرة لها غاية وهدف، وعوائل تحسنت أحوالها بسبب هذا الرجل الذي أصبح أبا للجميع رغم إنه لم يكن الأكبر، لكنه كان من الأفضل.

نحو عشر سنوات كاملة والحايكي مصاب بأزمة صحية جعلته عاجزاً، لكن تلك الابتسامة، والتمتمة بالحمد لم تفارقا شفتيه ولا قلبه، كلمة: الحمد لله، هي ما يسمعها منه أي أحد، لم يتبرّم ولم ينقم من جسده العاجز، كانت روحه أقوى من هذا المرض بكثير، لذلك هزم برضاه وبابتسامته ذلك العجز والإعاقة.

في الليلة الأخيرة زارته زوجته الُمخلصة المُحبّة "أم علي" في المستشفى حيث كان يرقد بسبب عوارض أزمته الصحية، قالت إنه كان يصلّي فقط، لم يتحدث، عادت المنزل، وقبل أن تنام، اتصلت مساء الإثنين به وهو في المستشفى، قال: "أشعر أن روحي أصبحت في الأعلى، إني أرى قدرة الله بكل وضوح".

عند الفجر عاودت "أم علي" الاتصال بالجناح الذي يرقد فيه، أجابتها الممرضة: إنه خير. ولكن بعد قليل فقط عاينته الممرضة فوجدته قد أغمض عينيه اللامعتين بكل هدوء.. ورحل.

في يوم تشييعه، مئات من الباكين، كلٌ له معه قصة، كل يدعو له بعفوية: "جزاك الله خيراً يا أبا عليّ". قال أحدهم: "رحل اليوم رجل من خير عباد الله، كان أنفعهم للناس، قدّم كل شيء، ولم يتحدث عن شيء فعله". وقال آخر: "كان  يعمل لهذا اليوم طوال عمره"، وها قد حلّ هذا اليوم ياخليل، هنيئا لك هذه البصيرة، والحياة الجديرة.


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus