ولي العهد في مجلس الشيخ عيسى قاسم: المشروع الذي فشل في ضم الشيعة إلى حضن الدولة الريعية

2016-08-26 - 3:09 م

مرآة البحرين - خاص: وسط ترقب كبير، وانتشار لوحات الترحيب الضخمة على طول شارع البديّع، حضر ولي العهد البحريني سلمان بن حمد آل خليفة إلى الدراز زائرا آية الله الشيخ عيسى قاسم، ضمن برنامج حفله لوضع حجر الأساس للمدينة الشمالية.

يومئذ طغت الزيارة على مشروع المدينة الشمالية، واستحوذ صداها على الرأي العام. كانت الزيارة هي الأولى التي يقوم بها طرف رفيع في سدّة الحكم للشيخ، الذي بدأ يتسلّم زمام القيادة الروحية للطائفة الشيعية في البلاد، بعد مرض الشيخ عبدالأمير الجمري، قائد انتفاضة التسعينات.

لم تمنع الحالة السياسية المتراجعة في البلاد والمزاج السياسي المحبط بين الجماهير إذّاك، من لقاء الطرفين (3 أكتوبر/ تشرين الأول 2002) في ذات العام الذي صدر فيه دستور 2002.

التقطت الصور للأمير الشاب يدخل مصطنعاً التواضع بيت الشيخ الكبير، ويجلس إلى جانبه على الأرض. كان خيار كسر الجليد لا زال قائما. فرغم خيبة الأمل بنجاح مشروع الملك السياسي (2001/2000) بعد قرار المعارضة مقاطعة الانتخابات، واصلت السلطة الحاكمة استراتيجية احتواء الطائفة الشيعية في تفاهمات الدولة الريعية، واستمالتها في حضن الدولة بكسب رضاها (على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي) مقابل سكوتها "السياسي"، أو على الأقل "شبه سكوتها".

تقدير لفضيلة الشيخ عيسى

قال ولي العهد إن الزيارة "تقدير لفضيلة الشيخ عيسى"، ثم تحدّث بحماس عن مشاريعه الاقتصادية التي جاء مبشّرا بها: مدينة إسكان كبرى لأهالي الشمالية، وإعادة إعمار قرية المقشع.

نفى ولي العهد أن يكون قد ناقش موضوع الانتخابات مع الشيخ عيسى، استمر لقاؤهما حوالي ساعة، ورغم أن الشيخ قال في تصريح لاحقا إنّه لا يتحدّث في أمر الانتخابات، إلا أنّه أكّد إنّه تحدّث لولي العهد عن الدستور، والعدل، والإنصاف.

وقال قاسم "إن الحوار كان بعيدا عن المجاملات، واتسم بالصراحة والتناصح". وكان انطباعه عن الزيارة أنها "تنم عن الإحساس بضرورة التلاقي الشعبي والحكومي على آراء من شأنها المحافظة على سلامة البلد وتقدمه، وهو أمر يحتاج إلى خطوات جريئة من الدولة"، حسب وصفه.

رغم كل ما كشف من خيوط لعبة الميثاق السياسية، التي قضت على آمال المشاركة، إلا أنه لم يكن خافياً تفاؤل الشيخ عيسى قاسم.

قال الشيخ إن ولي العهد «يبدي نية وجِدا وعزما في العمل على الإصلاح من ناحية عملية، ويقدر للناس حاجاتهم، وأبدى أحاسيس متألمة جدا لما شاهده في المقشع»، وطمأن الشيخ سلمان من أن يكون عند الناس نيّة سوء ضد الحكم.

وقال أخيرا «إن ولي العهد أبدى تمنيا باستمرار اللقاءات».

الرضا الاقتصادي مقابل السكوت السياسي

إلى جانب مشروع المدينة الشمالية، ظهرت على السطح منذ العام 2000 مبادرات اقتصادية اعتبرت ضخمة واستثنائية: زيادات في رواتب موظفي الحكومة وموظفي الشركات شبه الحكومية، الإعلان عن مشاريع إسكان كبيرة، توزير تكنوقراط من بينهم شيعة محسوبون على المعارضة، فتح باب التوظيف بشكل أكبر في القطاعات الحكومية للمواطنين الشيعة، محاولة توظيف السجناء المفرج عنهم ودمجهم، إسقاط جزء كبير من القروض الإسكانية، إسقاط فواتير الكهرباء المتراكمة، إصلاح السوق وخلق فرص عمل أكبر، دعم توظيف البحرينيين «مشاريع البحرنة ورفع الأجور والتدريب المهني للعاطلين».

1

وعلى الصعيد الاجتماعي والديني أعطي الشيعة مساحة أكبر في ممارسة شعائرهم وتنظيم دروسهم ومناسباتهم الدينية، وبدأ الملك في تقديم دعم مادي سنوي لإحياء موسم عاشوراء، فضلا عن السماح بإعادة الترخيص لجمعية التوعية الإسلامية، أكبر هيئة دينية ثقافية شيعية بعد إغلاقها عام 1984، وغيرها.

مع ذلك، بدا بأن مشروع الملك لن ينجح في إنجاز استقرار سياسي كان معوّلا عليه بعد عقود من الصدامات والأزمات. وبدا أن لقاء ولي العهد بالشيخ عيسى قاسم في أكتوبر/تشرين الأول 2002، لن ينجح في احتواء الطائفة الشيعية ضمن تفاهمات الدولة الريعية، وإقناعهم بأن الفرص الاقتصادية المطروحة جادة، واعدة، ومستدامة، وأنّها ستؤسّس لنظام من العدالة يلغي عقودا من التهميش والتمييز والإقصاء.

هذا ما بدا حينذاك، بحسب ما فهمت الدولة على الأقل.

لم يكن قد طرأ شيء جديد من قبل الشيعة وممثليهم، منذ إعلان موقفهم (الذي سبق زيارة ولي العهد بكثير) من دستور 2002 باعتباره دستورا غير شرعي صدر بإرادة منفردة، ومن ثمّ مقاطعة الانتخابات النيابية فقط (دخلت المعارضة الانتخابات البلدية في كل دوراتها ما عدا دورة 2014).

ولكن، بعد أشهر فقط من لقاء الشيخ عيسى بولي العهد، سقط فجأة خيار التفاهمات، والاحتواء، والاستمالة، ورجع سريعا خيار المواجهة السياسية، حتى قبل أن تكتمل دورة اختبار الخيار الأوّل.

لماذا؟

ربّما رأت الدولة أن الاحتواء الاقتصادي سيحتاج إلى وقت طويل جدا وكلف عالية جدا (على سبيل المثال ظل مشروع المدينة الشمالية معلّقا 14 عاما، وكشف عن تآكل مساحته تدريجيا على أيدي متنفذين، ولم يبصر النور سوى قبل أيام، وبدعم من المارشال الخليجي)، وعلاوة على ذلك ربّما تفشل هذه السياسة في النهاية في الحصول على السكوت السياسي من الطائفة الشيعية، خصوصا في ظل التئام المعارضة في مؤسّسات سياسية معترف بها من الدولة، وزيادة هامش حرية التعبير عبر السماح بإنشاء صحف مستقلة.  

كان مشروع الملك السياسي يتهاوى، وكان الستار ينسدل سريعا على «الأيام الجميلة التي لم نعشها بعد». لم يعط  للتفاهمات الأخرى أن تأخذ وقتها. على سبيل المثال رأى البعض أن اللقاء بين ولي العهد والشيخ عيسى قاسم كان يمكن أن يؤسّس لعلاقة بين الشيعة والعائلة الحاكمة خارج إطار البرلمان الذي فشل أن يؤسّس لقناة اتّصال، وكان يمكن أن تستمر هذه العلاقة أو أن تختبر على المدى القصير، في الحد الأدنى، لكن ذلك لم يحدث.

كما أن الأمل لم يفقد بشكل نهائي من اندماج القوى السياسية الشيعية في المشروع الجديد، رغم شكلية مؤسساته، وخلوّها من أي صلاحيات. لم يفقد الأمل من قبول الشيعة بحكم الأمر الواقع، والاقتناع بسياسة «النضال والتغيير التدريجي من الداخل»، وهو ما حدث فعلا حين قررت المعارضة المشاركة في انتخابات 2006، رغم كل المعوقات، وعلى رأسها التلاعب في توزيع الدوائر الانتخابية.    

ولكن، كانت أمام الدولة حينذاك خيارات سياسية أخرى للتعامل مع الطائفة الشيعية، خارج إطار الحوار والاحتواء الاقتصادي والمؤسسي، وسريعا بدأت هذه الخيارات تبرز على السطح. خبتت جذوة مشاريع التهدئة الاقتصادية، وبدأت الدولة بإشغال الطائفة الشيعية بملفات لم تكن في الحسبان، وكان الهدف خلق حاجة لدى القيادة الدينية الشيعية بضرورة تطبيع وترسيخ العلاقة مع العائلة الحاكمة، بل وبضرورة التراجع عن مقاطعة الانتخابات، وإبداء «الرضا السياسي» عمّا قدّم، والعودة إلى حضن «المشروع الإصلاحي» لتكون جزءا فيه مجدّدا.

هل كانت الدولة محقّة؟

هل فهم ولي العهد من الشيخ عيسى قاسم أن مشروعه ومشروع الملك لن ينجح؟ هل كانت خطّة الدولة خلط الأوراق واستخدام أدوات متناقضة في إدارة المشهد السياسي الذي يحكم علاقتها بالمعارضة الشيعية، بغض النظر عن نتائج هذا المنهج؟

في كتابه «صراع الجماعات والتحشيد السياسي في البحرين ودول الخليج»، يرى الخبير السياسي الأمريكي المختص بشئون البحرين جستن غينغلر أن «المواطنين الشيعة ليسوا طرفا حقيقيا من الأساس في الاتفاق الضمني الذي يؤمّن المنافع مقابل الولاء، لذلك نجد توقعاتهم للمكافأة المادية متضائلة».

لماذا لم يصدّق أحد أن الشيعة في البحرين يمكن احتواؤهم ضمن تفاهمات الدولة الريعية، لماذا يستخدم غينغلر مثال الشيعة في البحرين كأبرز نموذج على فشل نظرية الدولة الريعية، وضرورة إعادة النظر في فرضية أنّها هي ما يضمن بقاء الأنظمة الحاكمة في دول الخليج؟

2

بعد بحث سياسي عميق، استخدم فيها مسحا جماهيريا هو الأول من نوعه على مستوى البحرين، يصل غينغلر إلى النتيجة التالية «من الواضح إذا أن مسألة الأداء الاقتصادي للحكومة لدى الشيعة ترتبط بشكل لا مفر منه بمفاهيم أوسع تتعلق بالمساواة، والعدل، والشرعية - ليس  ببساطة في ما يتعلق بالاقتصاد فحسب، بل بالدولة نفسها».

الرفاه الاقتصادي سيعني شيعة أغنياء ولكن غير سعداء

لم يأت ولي العهد للشيخ عيسى قاسم بنظرية حكم جديدة، جاء يكرّر أسلافه من الحكّام، وربّما كان قد اطّلع جيّدا على ما كتبه علماء السياسة من تنظيرات حول فرضية الدولة الريعية في الخليج: توزيع الموارد النفطية في مقابل السكوت السياسي. لا التوزيع العادل كان ممكنا أو محتملا، ولا السكوت السياسي من الشيعة كان ممكنا هو الآخر.

وبدلا من عدم الرضا المادي، كان الانخراط السياسي للشيعة ونشاطهم نابعا من عدم الرضا عن النظام ككل، فهم يجدون أنفسهم معرّفين ضمن مجموعة قوتها السياسية ومكانتها الاجتماعية حدّدت على أساس حدث وراثي (أي كونهم ولدوا شيعة).

«إن كان المواطنون الشيعة لا يتحفزون سوى بأن يروى تعطشهم للسلطة السياسية، فإن الرفاه الاقتصادي للشيعة لا يعني شيعة أكثر هدوءا من الناحية السياسية ولكن ببساطة شيعة أغنياء ولكنهم غير سعداء».

المنافع الهامشية المتوقعة من توجّه سياسي أكثر اعتدالًا لدى الشيعة، هي أقل إغراء بكثير. لا يجد الشيعة أن حظوظهم ستكون أكبر فيما لو «سكتوا»، ولا يرون أبدا أن النظام الريعي يمكن أن يصحح الظلم التاريخي الذي عانوه، وذلك ما يبدو أن الدولة تراه أيضا.

«شيعة البحرين معارضون من حيث المبدأ» كما يرى غينغلر، «ويعود ذلك إلى استبعادهم الهيكلي عن أدوات السّلطة، وليس إلى عدم رضاهم عن حصتهم الجماعية من إيرادات النّفط في الدّولة».

العلاج أسوأ من المرض

الطائفة الشيعية الجريئة لم تعد مجرد مشكلة سياسية يجب أن يتم التعامل معها باستخدام الحوافز والأدوات العادية المتاحة للدولة، ولكنها مشكلة حقيقية للأمن القومي، من وجهة نظر الدولة.

الدّولة غير قادرة على الاستفادة فعليًا، حتى من الأدوات السّياسية المخففة للضّغط. حتى لو أمكن استخدام مثل هذه الجهود من قبل الدّولة في التّهدئة، فإنها ستكون عقيمة.

أعيقت القدرة المفترضة على التهدئة الاقتصادية، ليس من قبل الشيعة فحسب، بل من قبل «دولة مترددة في إثراء أو تمكين أعضاء مجتمع تنظر إليه كمعارضة سياسية بارزة أو مستترة، تتصل بمنافسين إقليميين معادين».

ما الداعي لأن  تستخدم الدولة مواردها في محاولة جذب أعداء معروفين أو محتملين؟ يرى غينغلر، أن الدولة توصّلت إلى فهم يقول بخطأ تبديد الموارد على محاولة رشوة مجتمع يعارض العائلة الحاكمة جوهريا.

«للمفارقة، على الرّغم من أنها لا تمتلك سوى الرعاية الاقتصادية تحت تصرّفها السياسي، فإنّ البحرين - هذه الدّولة الرّيعية الفاشلة - تظل تفضل التّخلي عن ما يُفتَرَض أنه سلاحها الأقوى أو التّخفيف منه، لخوفها من أن يكون العلاج أسوأ من المرض».

الآن وقد انتهت تقريبا ملامح الدولة الريعية في البحرين، بعد رفع الدعم الحكومي عن مختلف السلع الأساسية، فبخلاف المال الخليجي، ماذا تبقى للدولة سوى القمع؟


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus