14 فبراير ملحمة الحرب والسلم

2012-02-05 - 6:50 م


عباس المرشد*

في إحدى الليالي الأخيرة في دوار اللؤلؤة كان اجتماع عابر جمعني مع أصدقاء من جيل السبعينات والثمانينات ومن الطبيعي أن تدور أحاديثنا عن تطورات الساحة الأخيرة وتزايد تأكيدات تدخل القوات السعودية والجيش البحريني لقمع الثورة والإجهاز عليها، لم تسعفنا خبراتنا كأجيال متعاقبة أن نجاري جيل الثورة الشاب فكلما انطلق حديث مر علينا صاحبنا وهو يجر الترسانات الإسمنتية لتحصين منطقة الدوار. وقتها عرفنا أن هذا الجيل قد قرر إكمال حلقة الغضب وفق إرادته، حتى مقاومة حالة قانون الطوارئ التي نوقشت مع الصديق العزيز عبدالهادي الخواجة لم تكن متقدمة على أفكار شباب الثورة.

  كنت أعتقد و لا زلت أن شباب هذا الجيل قد انتصر قبل المعركة وفي أثنائها ومن بعدها حتى وإن لم يسقط النظام كما يريد، بل حتى وإن رجع الشباب لمنازلهم وهم لم ولن  يفعلوا فهم منتصرون أيضا. أقول ذلك لسبب بسيط جداً هو أن هدف الثورة كان البحث عن الكرامة والعيش فيها وقدرة شباب الثورة هي أنهم جعلوا جميع فئات الشعب أن يعيشوا بكرامتهم وعزتهم رغم كل ألوان القمع والعزل الطائفي الذي طال أفراد هذا الشعب.

 إنها المرة الاولى التي يخرج فيها أبناء الشعب غير منكسرين ولا مبالين بالمدرعات والدبابات والجيوش المتكالبة عليهم. المشهد متداخل جداً لمشاهد كبرى في الذاكرة الإسلامية خصوصا الشيعية منها فالإمام الحسين لم يسقط يزيد ولم يستطع أبوه من قبل أن يعزل معاوية لكن الأب والابن كانوا منتصرين في حركتهم وشهد لهم التاريخ بالانتصار وفي الذاكراة الحديثة لم تسعف آلة القمع الإسرائيلية الكيان الصهوني في كسر شوكة المقاومة رغم الدمار التي لحق بلبنان ومقدراته. إنها معادلة صعبة مادياً فالأنظمة التي سقطت في مصر وتونس وليبيا، لا تزال جماهير الثورة فيها تبحث عن تتمة الكرامة والحرية، وشباب هذا الجيل الصامد حقق الكرامة والحرية وإن لم يتممها بإسقاط النظام.

النظام الآن لا يواجه قادة سياسيين تقليديين، ولا يواجه حركة حزبية مؤدلجة يمكن محاصرتها والقضاء عليها، بقدر ما يواجه حالة متعاظمة من الكرامة والحرية والعزة. فتسعة شهور من الفصل والحرمان من العمل لم تؤثر على نفسيات المفصولين، وجرعات قاسية من التعذيب وامتهان الكرامة لم تركع معتقلاً واحداً ليكف عن مطالبه أو الخروج مجدداً في فعاليات سياسية، ووعود كبيرة ومغرية لم تستطع أن تغير من قناعة أحد. الخاسرون هم الفئة الضالة والكلاب المسعورة التي انتهجت طائفية قل مثيلها في العالم، وهم الآن ينهزمون مرة بعد أخرى. الخاسرون هم الذين سيأتي الزمن عليهم لاحقاً ليذيقهم جرعات ما فعلوه في حق أبناء هذا الشعب طوال عام كامل وطوال عقود طويلة.

لا أختلف مع من يقول إن النظام أصبح أكثر قوة من قبل وحظي بدعم لم يحلم به أي نظام عربي، إلا أن هذه القوة المادية والعسكرية عديمة الفائدة شأنها شأن أسلحة الدمار الشامل التي لا يستطيع أحد استخدامها رغم امتلاكه لها، لأن معادلة الردع صادقة في حال الشعوب "وهي اقتلونا أكثر فشعبنا سيعي أكثر". فمشهد البطل رضا ليس مشهداً مبتكراً وجديداً، ففي أحداث انتفاضة 1965 خرج بعض الشباب يستقبل رصاص الجنود بصدره العاري أيضاً، وسقطوا كما سقط بوحميد. وحالة الفصل من العمل ليست سياسية جديدة أيضا، بل هي تكرار وتكريس لسياسات قديمة جربت منذ قمع حركة 1954. وإذا تسنت لنا الفرصة للاسمتاع لما عاناه جيل الثمانينات من تعذيب واعتقال للنساء وتعذبيهن بأبشع أنواع التعذيب، سنعرف أن السياسية الممنهجة في السجون لم تتغير، لأنها تصدر من نزعة وحشية كما يقول السيد بسيوني.

إن الثورة كفعل سياسي، رغم غموضه، فإنه يحمل دائماً طابع المفاجأة، إذ لم يستطع أحد أن يصنع ثورة على نار هادئة، ففي لحظة تاريخية غامضة تتحرك جماهير غاضبة وتقرر أن تستبدل نظامها بنظام آخر وتعلن بشكل لا لبس فيه أن الحاكم الحالي لم يعد حاكماً، وأن بقاءه غير شرعي. هكذا هي معظم الثورات في التاريخ، أناس غير معنيين بالسياسية وغير منضوين تحت راية حزب ما يتفاعلون مع شرارة سياسية أو اجتماعية، ويقودون ثورة شعبية ضد النظام الذي يواجههم بالقمع والتنكيل، لكنه أمام حدة الغضب وتصلب الإرادة يسقط ويغور بعيداً ليحل مكانه نظام آخر عادة ما يكون هو الصوت الأكثر جلبة قبل الثورة وأثناءها.

من وجهة نظر شخصية، يبدو لي أن استباق لحظة سقوط النظام والرغبة في الحصول على الصوت الأكثر جلبة كان سببا أساسيا في تفريغ غضب الناس وتشتته، بما أتاح للنظام أن يعيد ترتيب أوراقه كاملة لاحتواء ومواجهة لحظة انطلاق الثورة وعنفوانها. فالإرادة التي خرجت بشكل مذهل ومفاجئ وجدت نفسها منشطرة ومنقسمة، وكان من الصعب توجيهها ناحية هدف واحد هو إسقاط النظام عملياً مع أن عبارة إسقاط النظام لم تبارح فعاليات الثورة وأوراقها حتى الآن.

بدلاً من تقديم إجابات مقنعة وبدائل سياسية شغلت ساحة الثورة بمعيار التخطئة والتصويب وتحميل المسئولية لطرف دون آخر، حدث ذلك في وقت ضاعف فيه «لنظام من ترسانة دفاعه وصارت الثورة أمام ستة أنظمة بدلاً من نظام واحد. التجارب التاريخية تعلمنا أن الثورة لا تموت لكنها تتراجع أو تبطىء من مفعولها، وفي الوقت نفسه فإن البقاء في المنطقة نفسها تقرير البقاء في الصندوق نفسه كفيل بأن يذبح الثورة ويطفئها انتظاراً لسنوات كي تشتعل شرارتها من جديد.

الوقت لم ينتهِ والانتصار الحقيقي متحقق ونبقى أمام حقيقة الوحدة وتنويع الأدوار بدلاً من الانشغال في جدالات غير مجدية تكذبها معطيات الواقع والمهمة الملقاة على عاتق الجميع هي استجماع لحظة الغضب وتوحيدها بدلاً من الانقسام حولها.

*كاتب بحريني

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus