آسيا خلف: فلسفة الرصد والتوثيق، الصورة الباهرة والإنسانية الباهتة

آسيا خلف - 2015-06-26 - 3:52 ص

آسيا خلف*

"أنا آسف جداً جداً.. لكن ألم الحياة يفوق متعتها بكثير لدرجة أن المتعة أصبحت غير موجودة.. تطاردني ذكريات حية من عمليات القتل والجثث والغضب والألم ...لأطفال يتضوّرون جوعاً أو جرحى، من المجانين المولعين بإطلاق النار، أغلبهم من الشرطة، من الجلادين القتلة".

هكذا ذكر كيفين كارتر في أجزاء من رسالته قبل أن ينتحر مسمّماً نفسه بأول أكسيد الكربون عبر عادم محرّك شاحنته عن عمر ناهز الثالثة والثلاثين عاما. كيفن كارتر المصور الشهير صاحب الصورة التي حازت على "بولترز" أرفع جائزة في التصوير الصحفي انتحر بعد تسلّمها بثلاثة شهور.

قصة الصورة كانت في مارس 1993 حيث قام كارتر برحلة إلى السودان مع زميله حين كان بقرية "أيود" سمع صوتا ضعيفا لأنين طفلة صغيرة هزيلة، كانت الطفلة قد توقفت عن الزحف لبرهة وهي في طريقها إلى مركز لتوزيع الطعام، فيما كان يتحضر لالتقاط الصور حط نسر بقربها، ذكر كارتر لاحقاً أنه انتظر نحو 20 دقيقة آملاً أن يفرد النسر جناحيه من أجل أن يلتقط أفضل صورة ممكنة، لكنه لم يفعل. بعد أن التقط الصورة قام بطرد النسر بعيداً، وشاهد الطفلة تستكمل زحفها نحو المركز. قال كارتر بأنه التقط الصورة، لأن عمله هو "التقاط الصور" فقط ومن ثمّ المغادرة. تم إخبار كارتر مسبقاً بعدم لمس الأطفال وذلك بسبب الأمراض المعدية.

ومن ثمّ نشرت الصورة في عدد كبير من الصحف الأخرى حول العالم. قام المئات من القراء بالاتصال بالجريدة لمعرفة ماذا حل بالطفلة الصغيرة، وبقي مصيرها مجهولاً وانتحر مصورّها متأثراً بذلك بدلاً من إنقاذها.

أذكر أنا في أحد الأحداث التي طالها القمع إثر مسيرة سلمية في البحرين قد تعرّض أحد الرجال من كبار السن لطلقة في الوجه وقد تناقلت وسائل الإعلام والرصد والتوثيق فيديو له وهو يكابد وجع النزيف يوضح في الفيديو كيف يحاول جاهداً بيده تخفيف الألم ووقف النزيف بينما يحاول بعضهم إمساك يده وإبعادها عن وجهه لتصوير "الالتقاطة الذهبية" ملتفين حوله بهواتفهم بدلاً من إسعافه بصورة عاجلة معتقدين بذلك هكذا يكون نشر المظلومية بينما أبسط معاني الإنسانية قد افتقدت في هذا الفيديو.

وتحدّثني أخت شاب شاعر فجع أهله بموته مؤخراً بأنها لن تنس منظراً عاشته في المستشفى فور علمها وذويها بمفارقة أخيها الحياة.. تقول: خرّ والدي بجسده على الأرض يلطم وجهه ويبكي معتصراً لخبر وفاة ولده تشاطره والدتي في العويل بينما رأيتُ الناس من حولي يلتقطون فيديو وصوراً له وهو يبكي.

كانت تنتظر من ينتشل والدها من الأرض ويواسيه .. صارخةً: "تعالوا شيلوه" لولا تدارك بعض الموظفين هناك. وذكرت: لن أنسى بشاعة الإنسانية في هذا المنظر ما حييت.

ماذا لو كان كيفن كارتر مؤمناً بقيمه متجاوزاً "حدود" عمله يحمل التوكّل على الإله في جنبات قلبه متحدّياً الامراض المعدية في مجاعة السودان وانتشل هذه الطفلة ليطعمها بدلاً من تصويرها مخلّفاً وراء ذلك شيئين فقط: جائزة بولترز وحسرةً طاردته حتى الانتحار؟

ماذا لو تمّ إسعاف المسن فوراً وتوثيق الانتهاك بحقّه مادام فعلاً قد أرسل للمشفى ولا يوجد شك بتعرضه لطلقةٍ نارية؟

ماذا لو واسى هؤلاء الناس تلك العائلة المفجوعة بفقد ولدها بدلاً من التقاط السبق والحدث "الباهر" لهذه المناظر؟ بدلاً من تجسيد صورة لأخته لن تنساها أبداً ولكان الوقوف تفرّجاً أهون عليها من تصوير والدها مفجوعاً لاطماً خدّه.

هذه المشاهد نراها يومياً في حياتنا وتتكرّر في تبادل صور الحروب والقتل البشعة التي لم نكن نتبادلها في حياتنا لولا تطوّر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي التي جعلت من آدمية البشر تخبو وينمو معها مفهوم خاطئ للرصد بعيد كل البعد عن الإنسانية بل وتنتج قساوة في القلب كلما شاهدنا بشكل يومي مناظر الدماء والأعضاء المقطّعة وتبادلنا صورها فيما بيننا..

من واقع مجتمعي .. هذه الوسائل قد أنتجت عادة للناس هي تصوير كل ما يمر أمامهم تحت نوايا الرصد والاعلام وحتى جثث الموتى وبكاء النساء قد اتخذت طابعاً يفوق الرصد ويقسّي القلب ليتعدى إنسانية النفس البشرية والانسان المسلم أيضاً.

وكذلك أضحت فلسفة الرصد والتوثيق تعتمد على التغريد في حسابات تويتر والتقاط الصورة لحدث معيّن وتناقلها في شبكات ووسائل التواصل الاعلامي -وهذا ما تعتمده شريحة من النشطاء - دون أن تتّخذ مسارها الصحيح ضمن منظومة حقوق الانسان ومكانها السليم في ملفات التوثيق وإضافتها كرقم جديد في أجندات القمع وملفات الشكاوى وطاولات المنظمات المتابعة لتلك القضايا بدلاً من إهدارها في الاقتصار على نشرها في وسائل إعلامية كتغريدة تقتات وتعتمد على إعادة النشر "الريتويت" أو صورة سيزول صداهما بعد حين وقد يجد المجني المتورّط ثغرات من خلالها لتبرئة نفسه.

نعم أدعم رصد كل ما يمكن بشكل موضوعي وعملي ناجح وبحيث يرقى بالانسانية ويفضح الظلم .. ولكن يبقى الحدث نفسه يحدّد الأولويات في النشر والرصد والتصوير والسبق الاعلامي فيبرز فيهم "الانسان" أولاً.

وأعود لقصة كيفن كارتر ولا أزال أتساءل لو كان كل فرد ينادي بتوقير النفس البشرية دون تمييز العرق والطائفة وكان مكانه فماذا كان سيفعل؟

*ناشطة ومدونة.


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus