حصاد الملك 2013: سرديّة "المجالس" المؤسَّسة على الفتْح والمكرمات

2014-01-28 - 10:41 م

مرآة البحرين (حصاد الساحات): بعد ثلاث سنواتٍ من الإمعان في إنْكار الواقع؛ لم يجد ملكُ البحرين (مواليد 28 يناير 1950) بُدّاً من الدّخول في مغامرةٍ جديدة، وهذه المرّة بالاتّجاه إلى الوراء، الوراءِ الأكثرِ انفلاتاً وجنوناً، وتحديداً حيثُ مخازن الخرافات الكبرى. إذن، هربَ الملكُ مجدّداً من الواقعِ إلى التّاريخ. لكنه هذه المرّة كان أكثرَ "جرأة" في استنطاق "مدوّنة الفتح" سيّئة الصّيت. أراد الملكُ أن يُنهي العام 2013م بردّ فعلٍ "جَسور" وبلا هوادة تجاه شعبه الذين، بدورهم، صنعوا فعْلهم "الجذري" تحت وقْع التّراكم المحنوي الذي صُبّ عليهم بلا توقّف، وتحت نظْر الملك وسمْعه. 

على نحوٍ أعمق، أخرج الملكُ زئيرَ العُقدة التي تربّى عليها. في الموقع الإلكتروني للملك؛ كُتِبَ بأنّ الأخير "كان حريصاً على حضور مجالس والده ليسمع الكثير من القصص والرّوايات التي تحكي تاريخ الأبطال والأمم والوقائع وذكْر عوامل النّصر والهزيمة". 

يختزنُ الملكُ قصصاً كان يرويها آباؤه وأجداده حول "الأبطال" و"النّصر والهزيمة"، وهي قصصٌ تُعظّمُ، حصْراً، القوّةَ القبليّة الغاشمة التي تجرّع منها/بسببها البحرينيّون الويلات منذ وطأت أقدامُ الغزو القبلي هذه الأرض في 1783م. تربّى الملكُ في المجالس التي تُعلي منطقَ القوّة. كان يُداوِمُ على حفْظ "وثيقة الفتح/الغزو" والتّغنّي بها بذاتِ اللّغةِ التي اعتادها القصّاصون غير المَهرة.

لا يُخاطِبُ الملكُ شعباً مسْتوياً على حرّيته كلّ الاستواء، أو مواطنين كامِلي المُواطنة، بل هوَ بصددِ إشْباعِ غريزته في الحَكي الميثولوجي وإبْراز البُطولات في وجه منْ يعتبرهم رعايا، أو أقلّ من ذلك. والملكُ في ذلك لا يبحثُ عن حجحٍ أو تاريخ مُعزّزٍ بالوثائق. منْ يجرؤ، أصلاً، فيُطالبه بالدّليل؟! الملكُ لا يشْتغلُ على صيانةِ الخطابِ من النّواقصِ والهفوات، ولا يهمّه ذلكَ قطعاً. همّه الأكبرُ هو رواية قَصص البطولات وسرْدها وكأنّها مرسومٌ ملكي، أو قانون مفروض على الجَميع، وعليهم الإنصات إليه، والانّصياع له، والتّمحور حوله، وإسْباغ البَهجةِ والانبهارِ به، تماماً كما يُساقُ - كالقطعان - رُوّادُ مجالسِ كبار القبيلة.

يُريدُ الملكُ إخبارنا بأنّ الحاضر، والمستقبل الآتي، لا قيمة له ولا حياة فيه إلاّ بربْطه وارتباطه بتاريخ 1783م. وخارج هذا التّاريخ؛ ينظرُ الملكُ إلى شعبِ البحرين على أنّهم بين أمرين، لا ثالث لهما: "فئة ضالة، مُغرّر بها"، أو "شعب وفيّ، يستحقّ العطايا".

إستراتيجيّة الهدم والبناء الهدمي

ثمّة رهانٌ يتشبّث به الملكُ لخوْض الغمار: أنْ يتحلّلَ النّاسُ من تاريخهم، وبنحوٍ تدريجيّ وقهريّ في الوقت نفسه: أنْ يقلّ ارتباطُهم بتلك الهويّة التي تشدْهم إلى التّاريخ المُوازي، أو النّقيض. يتأمّلُ الملكُ ذلك عبر خطّاطةٍ ملتويةٍ من الإجراءات، تتقاطعُ فيها عمليّات الهدم، بإعادة البناء، ثم الهدم.

في البداية، يُتيحُ الملكُ الفرصة الكاملة - لمنْ يشاء - للمشاركةِ في مهمّة "تحويل" الشّيعة إلى مكوّنٍ إضافيّ. الشّيعةُ في هذه المهمّة يتوجّب ألا يُصبحوا شعباً أصيلاً، وألا يكونوا ناساً لهم جذورهم غير المشكوك فيها. في الدّيموغرافيا "المُسيّسة"؛ يسْهلُ التّلاعب بكلّ شيءٍ حين تبدأ الحكاية بتقطيع الرّابط التّاريخي للسّكان، أو القاطنين في البلاد.

بعد ذلك، يتمّ بناء فكرة المكوّنات المُرافقة، أو المُزاحِمة، أو المُزامِلة. في هذا الطّور، ليس هنالك أيّ متّسعٍ للمُغالَبة على المكوّن الأصيل، ويُصبح الحديث - حينها - عن "سكّان أصليين" محض توهّم تاريخي أو أسطورة "جنائزيّة" يتمّ الإيهام بأنّ اصطناعها "حيلة" تُفبرَك بغرض سيولة الحياة وتوفير واحدةٍ من مُوجبات المظلوميّة الصّراعيّة. تأتي بعد ذلك عمليّة الهدْم غير المباشرة، من خلال تأسيس مجد تاريخيّ جديد على أنقاض ما سبق، وهي عمليّة أصرّ أن يقوم بها الملكُ شخصيّاً في العام 2012م، ولكنّه أولاها عناية متوحّشة في العام 2013م.

خطاب عيد الجلوس: تتويج الفتْح

لم يكن خطاب الملك في احتفالات 16 ديسمبر 2013م، مختلفاً عن خطاب ديسمبر 2012م، بل يكادان يتطابقان لجهةِ استحضار مقولة "الفتح" واتخاذها أساساً وتأسيساً لمواجهةٍ صريحة ضدّ النّاس.

ما الذي تغيّر إذن بين العامين؟

مع تداعيات العام الجديد؛ لم يجد الملكُ شيئاً حقيقيّاً قد تغيّر على الأرض. الإستراتيجيّة التي كان يُؤمَّل أن تُفضي إلى تكسير المعنى الوجودي للمعارضة؛ انتهت إلى فشلٍ مدوًّ. في الحال الطّبيعي، كان يُفترض الولوج إلى مسْرحٍ آخر، وتحديداً التّفاوض المُباشر مع المُعارضة، والنّقاش الجدّي لتسوية الأوضاع. إلاّ أنّ الملك لا يرى أنّ الأمور، بكلّ ما فيها من أوجاع وانكساراتٍ؛ تستدعي طريق التّسويّات النّهائيّة، بل الإمعان - بدرجاتٍ صاعدة - في "خلفنة" البلاد والعباد، والإغراق المتواصل لإستراتيجيّات الهدم والبناء الهدمي.
شكّل خطاب ديسمبر 2013م نموذجاً على ذلك.

(نصّ خطاب الملك ديسمبر 2013م)

 

(خطاب الملك ديسمبر 2013)

بدأ الخطابُ بالعبارة التي تختصرُ كلّ شيء: "نحتفلُ اليوم بذكرى فتح البحرين عام 1783م". ولكي يُعطي هذا "الفتْح" معناه الهدْمي؛ أوْضح الملكُ أنّ الفتْح للبحرين كان لأجل أن تُصبح "دولة عربيّة مسلمة ذات سيادة". ثمّ يختتمُ الفقرة بالإشارة إلى الاحتفال ب"عيد الجلوس". الفتْحُ أولاً، ثمّ الجلوس. الغزو، ويليه التسلّط والاستواء على العرش، تماماً كما يحدث في قصص "الفتوحات" أو الاحتلالات المعروفة في التّاريخ. يريدُ الملكُ أن يقول لشعْبه - الذي ينتفضُ ضدّه - بأنّ هويّة الوطن تتشكّلُ في رحاب هذا التّاريخ: 1783م, أي في "الرّحاب الضّيقة" التي تُلزمهم الشّعورَ بأنّهم لازالوا غير مؤهّلين للمواطنة، وليسوا جديرين بها، لأنّهم باقون - وفق مرجعيّة الملك - رعايا تحت سلطة الفتْح.

بدون هذا التّاريخ؛ ليس ثمّة مواطنون شرفاء، لا في العروبةِ ولا في الإسلام. والملكُ في ذلك يقْتدي - كما قالَ - بالمجالس الأولى التي تربّى فيها وتغذّى على موائدها. مرجعيّة "المجالس" لا تستقيمُ مع بناء دولةٍ عصريّة، قائمةٍ على تداول السّلطة، وتأسيس مواطنيّةٍ كاملة. لذلك، لم يتحدّث الملكُ عن ذلك ولو بالإشارة، وفي اللّفتة التي أتى فيها على ذكْر "المواطنين" كانَ يُبشّرهم ب"تحسين المعيشة" والمكرمات.

مرجعيّة المجالس تُزوّد الملكَ بكلّ مفاهيمه حول "الفتح" والاقتداء ب"الآباء والأجداد". في هذه المجالس، يُصبح الكلامُ عن "التّعايش والمحبّة والتّسامح" جُملاً لغويّة لاغيّة، لأنّها تظلّ مُشبّعة بأجواء المجالس المؤسَّسة على "الفتح" والانتصارات القَبليّة. على هذا النّحو، حين يقول الملكُ: "مؤكّدين على تعزيز وحدتنا الوطنيّة وهويتنا العربيّة وتراثنا الإسلامي، مقتدين بالآباء والأجداد في نشر روح التعايش والمحبة والتسامح بين جميع أبناء هذه الأرض الطيبة من مختلف الأديان، دون تفرقة ولا تمييز في وطننا الغالي"؛ فإنّه يعني العكس تماماً.

لم تدمْ احتفاليّات الملك مع النّاس، ولم تطُلْ وعوده الخيّرة لهم. انقلبَ على الأعقاب، وصبغَ حياتهم بالسّواد والدّماء. اقتدى الملكُ بالأسلاف: ازدادَ الانقسامُ والتمزّق، وتولّت الميليشيّات والمشيخيّات وظيفةَ التّشطير المذهبي برعاية رموز القبيلة. انشرخَت هويّة العروبة والإسلام عبْر جحافل المرتزقة متعدّدة الجنسيّات، وبإمدادِ قوّات درع الجزيرة التي صوّبت جنازيرها ناحية المساجد ودُور العبادة، وكانت الشّعائر الدّينيّة هدفاً مشروعاً لها. حظيَ التّمييز ضدّ الشّيعة بالامتنان والمشروعيّة العمليّة، وانتشرت لوائحُ الاستهجان ضدّهم في كلّ الدّوائر الحكوميّة. لا تعايش، ولا محبّة في البحرين، والرّصاصُ الحيّ لازال يُطارد الشّبّانَ ويقتلعُ حياتهم، وتحت وقْع حوارات ديوان الملك.

إلاّ أنّ الملك يهربُ من هذه الوقائع. يتخفّى وراء الاستقبالات، ومراسيم السّفراء، والبهرجة الخاطفة التي يمنحها له الزّوار العابرون من الممثّلين وطُلاّب المزايا والامتيازات. يُخفي الملكُ عن ناظريه شظايا الحرمان، ويستبسلُ في ابتلاعِ سخطِ الشّوارع والسّاحات، ويختطفُ نفسَه داخل المهرجانات الميّتة. ولكن، سرعان ما يتكسّرُ كلّ ذلك أمام البقعة الممتدة بتظاهراتِ تقرير المصير والمسيراتِ الضّاجة بمطالب التّحوّل الدّيموقراطي.

الملكُ والمُخوّفات الأربع

تتطايرُ من كلمات الملكِ شُحناتٌ مليئةٌ بالانفصال والنّوايا السّالبة. ثمّة تعمُّد في استحضار المُخوّفات. لا يكفّ الملكُ عن الإرعابِ والإنذار الصّريح.

في خطاب ديسمبر 2013م؛ يُخوّف الملكُ شعبه بأمورٍ أربعة:

1- حكومة خليفة بن سلمان: يقول الملكُ: "نشكر حكومتنا الموقرة على ما تم إنجازه من مشاريع إسكانية، ونوجه بهذه المناسبة الوطنية ببناء أربعين ألف وحدة سكنية جديدة وفي أقصر مدة ممكنة والخدمات الأخرى المكملة، بما يوفر الحياة الكريمة والبيئة المناسبة للمواطنين الكرام".

2- الجيش والشّرطة: يقولُ الملكُ: "يسعدنا في هذا اليوم المجيد أن نوجه الشكر لكافة منتسبي قوة دفاع البحرين وقوات الأمن العام والحرس الوطني على ما يبذلونه من جهود مخلصة في الحفاظ على أمن الوطن واستقراره.

3- قوّات مجلس التّعاون: يقول الملكُ: "إننا نعرب عن تهنئتنا لقواتنا المسلحة وشعبنا الوفي على موافقة أصحاب الجلالة والسمو قادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، لإنشاء قيادة عسكرية موحدة لقواتنا المسلحة لضمان العمل الدفاعي المشترك وإقرارهم إنشاء مركز التنسيق البحري للأمن البحري في البحرين".

4- الاتحاد الخليجي: يقول الملكُ: "أما بالنسبة للاتحاد فقد تداولنا، مع الإخوة أصحاب الجلالة والسمو قادة دول مجلس التعاون، موضوع الانتقال من التنسيق والتكامل إلى الاتحاد، واتفقنا على مواصلة العمل الدؤوب في هذا الصدد. وإن مملكة البحرين على استعداد من هذا اليوم لإعلان الاتحاد، لتأكيد إرادتنا الثابتة وعزيمتنا الصلبة، متطلعين إلى الدعوة للقمة الخاصة بالإعلان عن قيام هذا الاتحاد بالرياض".

بهذه المُخوّفات يُبدّدُ الملكُ التّفاؤلات المُمكنة معه، أو مع نظامه القائم. هو لا يلوّح بها لأجل تعديل المَوازين وفرْز التّوازنات، ولا لكي يُقنع النّاس بعدم جدوى الاحتجاجات، وأنّ الطّريق مسدودٌ بالدّبّابات. هو يلجأ للتّخويف من أجل التّخويف، أي حتّى يفرض سلطة الفتْح العميقة، ويُثبت للجميع بأنّ كلّ ما حصلَ، وما يمكن أن يحصلَ، لا يُغيّر من إصراره على حجْز البلاد كلّها في حضْن مجالس الآباء والأجداد.
شكْرُه لحكومة خليفة بن سلمان، وامتداحه الغامر لقوّات الجيش والشّرطة، وفرحه غير المحدود بالتّلاحم العسكري مع مجلس التّعاون، وتمنّيه - الشّبيه بالاستعطاف - لإعلان الاتّحاد الخليجي؛ كلّ ذلك يرميه الملكُ في وجوهنا، وليقول للحالمين بالحوار "الجاد" بأنّ البداية لا ينبغي أن تتخطّى هذه الحدود الغليظة.

للمجالس أسرارها، وأسرارُ الملكِ مكتوبةٌ على جدران 14 فبراير، وإحدى هذه الجداريّات تقول: "بحرين تصرخ للأبد.. براءة منّك يا حمد".


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus