مكارثية* وزارة التربية... سياسات التوظيف بين الولاء والعقاب

2011-06-01 - 1:55 م



مرآة البحرين(خاص): شكّل ملف العاطلين متحوّلاً للعديد من المحطات في تاريخ البحرين الحديث. الانتفاضة التي اندلعت في تسعينات القرن الماضي لم تكن بعيدة عن ضغوط هذا الملف، وكان اعتصام العاطلين أمام وزارة العمل في ذلك الوقت؛ اختبارا فعلياً لقدرة الشّارع على التعبير المطلبي.

عندما دخلت البحرين عقْد الانفراج الأمني، مع مجيء العاهل الحالي، برزَ ملف العاطلين مجدّدا وبحضور لافت أيضاً. وإذا كان العاطلون عامةً هم مُحرِّكو انتفاضة التسعينات؛ فقد كان للعاطلين الجامعيين في هذه الفترة حضورهم الأقوى، تزامناً مع تحرّك عام للعاطلين، الذي سيأخذ مساراً غير مسبوق في عام 2005م باعتصامه قرب الدّيوان الملكي بتأييد من النّاشط الحقوقي عبد الهادي الخواجة. التحرّك الأخير كان سبّاقاً للحضور في الشّارع، ونظّم العديد من الاعتصامات المطلبيّة.
في هذه الأجواء، برزت "لجنة المدرّسين العاطلين عن العمل"، ليتلاقى التحرّكان في عدد من الفعاليات المشتركة.

على مستوى المعلّمين والتربويين العاطلين؛ تنقل الأدبيّات التي انتشرت في تلك المرحلة أن العاطلين من ذوي المؤهلات التربوية يحدّدون مشكلة التعطّل في أمرين أساسيين، وهما البُعد الطائفي، وعامل المحسوبيّة. إضافة إلى غياب سياسات توظيف واضحة، فإنّ وزارة التربية والتّعليم ظلّت على الدّوام عصيّة على طوابير العاطلين، إلا في الحدود التي لا تؤثر على التركيبة الطائفيّة الحديديّة.

في منتصف سبتمبر عام 2001م، عُقد أوّل لقاء رسمي جمع العاطلين والجهات المسؤولة في مبنى وزارة التربية والتعليم (مدينة عيسى). مثّل الجانب الرّسمي، وزيرا التربية محمد الغتم والعمل عبد النبي الشعلة. من جانب العاطلين، حضر ممثلون عن "لجنة دعم الباحثين عن العمل"، و"لجنة المدرسين العاطلين عن العمل".

بعد تجربة طويلة، ومفاوضات مع الوزارات المعنيّة، وصولاً إلى رئاسة الوزارء، فإنّ أحد النّاشطين في تلك التحرّكات يشير إلى أنّ وزارة التربية كانت ممسوكة من أية "تغييرات حقيقيّة"، واقتصرت عمليات التّوظيف على السّلك التعليمي والتربوي، من غير أن يطال "القيادات التربويّة والإداريّة" في الوزارة، التي ظلّت مقصورة على اتجاهات دينيّة وطائفيّة معيّنة.
 
 اللافت أنّ إجراءات التّوظيف التي تمّت بسبب المطالبات والضغوط، لم تخل بدورها من إدارة طائفيّة. يُعلل أحد ناشطي اللجنة الأمر بأن "الحرس القديم" ظلّ مكانه، ولم يتغيّر إلا شكلاً، عندما كانت الأوضاع العامة في البلاد تتطلّب تغييراً في المظاهر فقط.

طوى العاطلون الجامعيون مرحلة الاحتجاج بسرعة. بعد مفاوضات مستميتة مع مسئولي وزارة التربية، وصلَ الجميع إلى اقتناع بأنّ العقدة المستعصية لا يريد العاملون في الوزارة حلّها. هكذا ازداد الضّغط، وتولّى الجامعيون تشكيل هيئة وطنية من خلال مؤتمر عام تمّ تنظيمه في الخامس من أكتوبر 2001م.
سرعان ما تطوّر عمل الهيئة الوطنيّة لدعم الخريجين العاطلين وبدعم من الجمعيات السياسية والأهلية، وأصدرت تقريرا تفصيليا تضمّن بالأرقام فقدان الشفافيّة في عملية التوظيف في وزارة التربية. وقد أورد رئيس الهيئة، النائب سيد عبد الله العالي، أربعين مقترحاً لحلّ مشاكل التّوظيف في الوزارة بناء معطيات التقرير.

   بسبب التلكؤ، وعدم تجاوز المشكلة الحقيقيّة، فقد لجأ الناشطون في لجنة المدرسين العاطلين إلى رئاسة الوزراء، وأسفر اعتصامهم عن تشكيل لجنة وزاريّة تعدّ الأولى من نوعها. حملت اللّجنة اسم "اللجنة المعنية بالنظر في شكاوى العاطلين من الباحثين عن عمل لدى وزارة التربية والتعليم". اللجنة برئاسة الدكتور ياسر بن عيسى الناصر، الأمين العام لمجلس الوزراء، وتم عقد الاجتماعات في ديوان رئيس الوزراء نفسه.

قراءة محضر الاجتماع الثّاني للجنة المذكورة (الذي أعدّه عبد الجليل الطريف)، يسمح بالتأكيد على أن المسئولين في الدّيوان يدركون أنّ وزارة التربية نفسها غير قادرة على تجاوز مشكلتها الداخلية في شأن شفافية التوظيف، الأمر الذي اضطر المسئولين أنفسهم لتشكيل لجنة "تظلمات"، والتي استقبلت - حسب المحضر - أكثر من خمسمائة رسالة تظلّم في يوم الأحد 17 مارس 2002م. أي في وقتٍ قياسي بعد تشكيلها. رغم أن النّاصر أراد التأكيد في الاجتماع على أن اللجنة ليست ذات صفة رقابيّة على وزارة التربية، إلا أنّ تأكيده إلزاميّة قراراتها ينبيء أنّ الأمور المستعصية في الوزارة تحتاج إلى قرارات "خارجيّة".

يمكن معرفة الخلل البنيوي في وزارة التربية بمعرفة ممثلي الوزارة حينها في لجنة التظلمات المُشار إليها. وهما حسين بدر السّادة، وكيل وزارة التربية والتعليم، وناصر محمد الشّيخ مدير إدارة التعليم الإعدادي والثانوي.

إضافة إلى مسئول التوظيف، صبري محمد، شكّل السادة والشّيخ محوراً أساسياً لهندسة البناء الطائفي والفئوي داخل الوزارة. وهذه الأسماء مسئولة بشكل مباشر عن إجراءات التوظيف الفاسدة، والتي أخذت العناوين التالية:

- إغراق الوزارة بموظفين غير مؤهلين في مناصب وهميّة، وسيلةً لوضعهم في خطّ الترقيات والمناصب الإدارية المتوقعة. وهؤلاء ينتمون إلى جماعات مذهبية وفئوية معينة.
- قصْر المهام المرتبطة بإدارة التعليم والمناهج على نفس تلك الجماعات المذهبية والفئويّة، وربط الإدارات بموظفين وموظفات تقترحهم الجمعيات والمراكز الدّينيّة الفارزة للإخوان المسلمين خاصةً.
- توظيف المواطنين الشّيعة في الوظائف الميدانيّة بشكل أساس، وتضييق الخناق عليهم من خلال لجان التقييم والمراقبة، واستحداث اللجان التفتيشيّة التي يرفدها موظفون من انتماءات مذهبيّة أخرى، ومن لم يجتازوا الخبرة الميدانيّة الكافية.   

  ومن المعروف أنّ إجراءات الوزارة في التوظيف لم تكن تأخذ كثيراً بالمعايير المهنيّة بالنسبة لأولئك الذين تقترحهم جمعية التربية الإسلامية أو غيرها. ورَصدَ الناشطون في اللجان الأهلية الخاصة بتعطّل الجامعيين، أعداداً كبيرة من الذين تمّ توظيفهم في الوزارة في الوقت الذي لم يُنه بعضهم دراسته، كما أنّ بعضهم تمّ فصْله من مقاعد الجامعة أكثر من مرّة لتكرار الرّسوب وهبوط المعدّل التراكمي.

هناك العديد من الوثائق الكاشفة على فساد السياسة التوظيفيّة في وزارة التربية. يبدأ الأمر من الرأس. مطلعون يؤكدون أنّ الفساد في التوظيف وصلَ القمّة مع الوزير الحالي، ماجد النّعيمي، الذي أحاط نفسه بمجموعة من الاستشاريين الأجانب، لكي يتم ترتيب ظهوره التربوي، وهو ذو الخلفيّة العسكريّة الذي لا يُجيد الدّرس التربوي جيداً. النعيمي جاء لأجل ترسيخ مهّمة أساسية، وهي تحويل الوزارة إلى "كرنفال راقص" للولاء للحاكم، أمّا الموضوعات التربوية، فيحاول الدكتور عبدالله المطوّع تسييرها بإشراف المستشارين الأجانب، وبما يخدم أجندة الجماعات الدّينيّة الإخوانيّة. فالمطوّع نفسه مُتهم بأنه حوّل الوزارة إلى ميدان مقفل لجماعة الإخوان و"الطائفة"، وهو يمثّل خطاً مفتوحاً لكلّ طلبات التوظيف والترقية، والعديد من تلك الطلبات غير مستكملة للشّروط، ولا تأخذ طريقها المعتاد في إجراءات التّوظيف، ويوفّر ديوان الخدمة المدنيّة (الذي يسيطر عليه الإخوان وغيرهم من متعصّبي الطائفة) التغطية الكاملة لمثل هذه التجاوزات. وفي هذا الصّدد، يذكر أحد مسئولي الرواتب في الوزارة أنّ العديد من الإجراءات غير القانونيّة تدخل في "نظام الرواتب" من غير أن يعرف هو شخصياً بها وبطبيعتها الإداريّة.

بعض الأجانب الذين يرغبون في الحصول على امتيازات عاجلة في وزارة التربية، يعرفون أنّ الطريق السريعة إلى ذلك هو التقرّب من الجمعيات الدّينيّة الإخوانيّة. يقول أحد المعلّمين العرب أنّ زملاء له اقترحوا عليه مراراً حضور فعاليات الجمعيات المذكورة لأجل إنهاء معاملاته بسرعة. بعضهم حصلَ على ما هو أكثر، فبعد خروجه من سلك التعليم، عُيّن في إحدى الإدارات التابعة للوزارة، وبعد فترة، وجدَ مكانه مستشاراً إعلامياً للوزير. حصلَ ذلك مع مكافأة نيل "الجنسية"، ومن غير أن يطلبها.
   ينقلُ معلّم تونسي أنّ زميلاً له استطاع أن يبني أكثر من عمارة في بلده تونس. عندما بحث في الأمر، اكتشف أن الزّميل يؤدّي أعمالاً "خاصة" للوزير من جهة، ولجمعية التربية الإسلاميّة من جهة أخرى.

بخلاف السفارات العربيّة الأخرى، فإنّ السفارة المصريّة تتولّى عملاً مباشراً في هذا الجانب. يذكر المصدر أنّ السفير يُصدر تعليمات دوريّة لأبناء الجالية المصرية، يُحدّد فيها ما يجب عليهم فعله. فيما خصّ وزارة التربية، فإنّ الوزير "ينصح" رعاياه بمواكبة الجماعة الدّينيّة التي تسيطر على الوزارة، والانخراط في برامجها.
 
  ليس غريباً إذن أن مركز المعلمين في المحرق يقع تحت سيطرة الأخوة المصريين. وليس غريباً أنّ كثيراً منهم تحوّل إلى أدوات استخباريّة خلال الأحداث الجارية. من الطبيعي أن الذين انساقوا في هذا الخيار، كانوا أصلاً معارضين لثورة 25 يناير المصريّة، وظلّوا حتّى اللحظات الأخيرة رافضين لها، ومتمسّكين بنظام مبارك. حينما سقط الأخير، عوّضوا ولاءهم بولاءٍ آخر، وارتضوا أن يكونوا أعضاء فاعلين في لجان "كشف الأقنعة" التابعة لتجمّع الوحدة الوطنيّة، وهي لجان تتولّى الكشف عن المعلّمين المشاركين في اعتصامات ثورة 14 فبراير والذين أضربوا عن العمل.

نظير هذا العمل، أمر تجمّع الوحدة وزارة التربية بصرْف مكافآت لأولئك المعلّمين والمتطوّعين (من الأجانب والبحرينيين)، وهم ما تمّ بالفعل، وبعضهم تمّت ترقيته، أو تثبيته في الوزارة. وبدون أية إجراءات معقّدة في التوظيف.

السّجل الأسود القديم لوزارة التربية جعلها تكون الأكثر مكارثيّة في وجه المشاركين في الاعتصامات والإضرابات. ففي هذه الأحداث؛ تمّ إخلاء الوزارة من معظم العاملين الذين لا ينتمون إلى "طائفة الوزارة". اشتغلت لجان التفتيش بقسوةٍ وبلا توقف. مُلئت المدارس بالمخبرين والمخبرات. فُتحت أبوابها للقوات الخاصة. تمّ القمع والاعتقال والتعذيب في حرمها وفي قاعات الدّرس والامتحانات. تحوّل موظفو الوزارة - غير المؤهلين تربوياً - إلى رؤوساء للجان التفتيشيّة داخل المدارس، تُحاسب المعلمين والمديرين حساباً عسيراً.
لم تؤد وزارة التربية دوراً غريباً عليها. لقد وسّعت من نطاق الكراهية والفساد والطأفنة الذي كانت عليه. 
   
*المكارثّية (بالإنجليزية: McCarthyism‏) هي الممارسة التي تقوم على اتهام الناس بوجود صلة تربطهم بالمنظمات الشيوعية دون اثباتات كافية تدعم الادعاء. وقد دعيَت باسم جوزف مكارثي (1908 – 1967) وهو سناتور جمهوري عن ولاية وِسْكونْسِن الأميريكية.أخاف مكارثي الأميركيين خوفا حقيقيا. لا يصدق الاميركيون اليوم، بعد خمسين سنة، كيف أخافهم مكارثي.


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus